بدايةً، نتقدّم بالشكر للأستاذ عثمان ميرغني على تناوله لرؤية تحالف “صمود” – في عموده المنشور بتاريخ ١٧ يونيو ٢٠٢٥ – وهو ما يعكس اهتمامه بالانخراط في النقاش حول المبادرات الوطنية في لحظة مأزومة كالتي نعيشها.
ولا بدّ أن نشير هنا إلى أن الرؤية نُشرت كدعوة للحوار المفتوح حول مسارات الخروج من الأزمة وإعادة بناء الدولة. وهي ليست نصّاً مغلقاً، بل مقترح قابل للتداول والتطوير الجماعي ..
ومع ذلك، فإن من حقنا أن نردّ على ما نراه تأويلاً قاصراً وتقويلاً غير دقيق أو قراءة متعجلة لما ورد في وثيقة الرؤية.
شرع الأستاذ عثمان في قراءة رؤية “صمود” بتفاؤل، لكن سرعان ما انقلب هذا التفاؤل إلى خيبة أمل، ليخلص إلى أن الرؤية تعاني من “شح الخبرة” و”ضعف الصياغة” و “الافتقار للإبداع” وأنها تعكس استمراراً في “الحالة الثورية”، إلى غير ذلك مما عَدّهُ نقاطَ ضعفٍ فيها .. وفيما يلي، نوضح أوجه القصور في التحليل، والافتقار إلى الدقة والإنصاف في هذا التقييم:
في طبيعة الوثيقة:
وصف الكاتب الوثيقة بأنها “مقال طويل” يفتقد للتماسك، ويخلط بين الرأي والتحليل وخارطة الطريق. لكن هذا التوصيف يغفل طبيعة الرؤية السياسية في مراحل التأسيس، والتي تصعب الإحاطة بها في “بيان صحفي”، بل تتطلب تحليلاً دقيقاً للأزمة وتشخيصاً عميقاً لجذورها، ثم رسم خارطة طريق عملية.
ما قدمه تحالف “صمود” هو مقترح يجمع بين التشخيص، والرؤية القيمية، والخطوات السياسية والهيكلية. وهي عناصر من الطبيعي تداخلها في أي طرح تأسيسي جاد. إن ما وصفه عثمان بـ“الخلط” هو في حقيقته سعي لربط عناصر الأزمة بأدوات الخروج منها في إطار مشروع إنقاذ وطني، لا مجرد بيان سياسي مرحلي.
اختزالٌ مخلّ لفعلٍ تاريخي ممتد:
من أبرز ما يلفت النظر في مقال عثمان ميرغني اعتماده سردية تبسيطية تُعلن نهاية ثورة ديسمبر بمجرد سقوط رأس النظام في أبريل ٢٠١٩. وهذا تأويل قاصر لا يعكس فهماً دقيقاً لمفهوم الثورة، بل هو تَعجُّل في إعلان نهايتها قبل اكتمال فعلها التاريخي.
بالرغم من تباين الثورات من حيث الدوافع والسياقات، تظل جوهراً واحداً: تمرُّد على واقع غاشم ومحاولة لفتح أفق جديد يُتيح للناس تحقيق أحلامهم في الحرية والكرامة. والثورة، وإن تقاطعت مع الدولة، فإنها لا تنفصل عنها؛ لأنها في الأصل مشروع دولة بديلة، خالية من تركات الماضي المثقلة بالخيبات، ومؤسّسة على قيم المواطنة والمساواة والعدالة.
اختزال الثورة في لحظة سقوط النظام هو تبسيط مخلّ لتحول تاريخي عميق لا يكتمل إلا بتحقيق شروط بناء الدولة المدنية الديمقراطية .. وفي الحالة السودانية، لا تزال هذه الشروط بعيدة المنال.
الكارثة التي نعيشها اليوم ليست نتيجة استمرار حالة الثورة كما يزعم الأستاذ عثمان، بل ثمرة مباشرة لعرقلة استكمال أهدافها من قبل القوى المضادة التي سعت لقطع الطريق على مسار الانتقال بأكثر من طريقة، بما في ذلك فض الاعتصام وانقلاب ٢٥ أكتوبر إلى حرب ١٥ أبريل. كما ساهم ارتباك قوى الثورة نفسها، وتشرذمها، وتواضع أدائها في بعض الملفات، في إضعاف زخمها وإتاحة الفرصة للارتداد عليها.
في التأسيس قبل التداول:
انتقد الكاتب بشدة مقترح تحالف “صمود” بفترتين انتقاليتين مدتهما عشر سنوات، واعتبره “استمراراً للتجريب والانتقال” و “تعدياً على الشرعية الانتخابية”. غير أن هذا الاعتراض يتجاهل جوهر ما تقترحه الرؤية، وهو أن ترسيخ ثقافة التداول السلمي للسلطة واستدامتها في السودان لا يمكن أن يتم إلا عبر مرحلة تأسيس وطني استناداً على عقد اجتماعي مُتوافَق عليه يرسِّخ مداميك الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وعلى رأسها: السلام، الجيش الواحد، العدالة، المواطنة المتساوية، وسيادة القانون، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، وضمان الحقوق والحريات .. إلخ.
الفترة الأولى، بقيادة حكومة انتقالية تُشكَّل بتوافق وطني، تضع الأولوية لإنهاء الحرب وبسط السلام، واستعادة فعالية الخدمات الأساسية والإعمار، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وتفكيك التمكين، وتهيئة البيئة السياسية والدستورية. أما الفترة الثانية، فتقودها حكومة منتخبة، لكنها تبقى ملتزمة بالإطار التأسيسي المُتوافَق عليه، وتستكمل المهام المتفق عليها وفق وثيقة العقد الاجتماعي.
وهنا لا بد من التذكير بحقيقة جوهرية: الديمقراطية لا تُختزَل في الانتخابات فقط، بل هي عملية متواصلة، قوامها التعددية، والرقابة والمساءلة، واحترام الإرادة العامة، بما في ذلك الأصوات المعارضة. فالحكومة المنتخبة لا تستند في تمثيلها للإرادة العامة على الإستحقاق الإنتخابي فقط، وإنما تستكمل هذا التمثيل بخضوعها المستمر للتقييم والتصويب، بل والتراجع عن السياسات التي تواجه بالرفض الشعبي .. وقد عبّر بريكليس – في وجهٍ من الوجوه – عن هذا الوعي المبكر بالديمقراطية في خطبته الشهيرة في أثينا القديمة، بقوله:
“بينما يستطيع قليلون أن يضعوا السياسات، فإننا جميعاً قادرون على الحكم عليها وتمييز صوابها من خطئها.”
وعمومًا، فإن مقترح “فترتين انتقاليتين تأسيسيتين” يظل – كطرح جديد – قابلاً للنقاش، ولا يمكن أن يصبح نافذاً إلا عبر توافق شامل بين القوى المدنية والسياسية، تُخاض بموجبه انتخابات الفترة الثانية. وإذا تحقق هذا التوافق، فإن التزام الحكومة المنتخبة بموجهات المرحلة التأسيسية لا يُعْدُّ انتقاصاً من شرعيتها، بل يُجسِّد وعياً ديمقراطياً متطوراً يحول دون تكرار الأخطاء التي عطّلت التحول الديمقراطي مراراً في التجربة السودانية.
ختاماً:
رؤية “صمود” ليست نصّاً مُقدّساً ولا مشروعاً مفروضاً، بل هي دعوة جادة للتفكير الجماعي والتفاعل البنّاء، من أجل توحيد الإرادة الوطنية في اتجاه إيقاف الحرب وإحلال السلام، والتوافق على مطلوبات التأسيس الوطني المعافى من أمراض الماضي.
إن تجاوز الكارثة الراهنة ليس مستحيلاً .. فمن قلب الكوارث تولد أحياناً أعظم مشاريع الإنقاذ، ويمكن للسودانيين أن يجعلوا من هذه الكارثة منصة لانطلاقة جديدة ومدخلاً لمسار نهضوي طال انتظاره، إذا تغلّبت إرادتهم الجامعة على شتاتهم المُدمِّر.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.