د. عبد العظيم ميرغني
بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف 17 يونيو 2025 د. عبد العظيم ميرغني
أسطورة صخرة سيزيف، أحد أشهر الحكايات الإغريقية، ولعل معظم الناس على دراية بتفاصيلها.
- أصل الحكاية أن ملكاً حكمت عليه الآلهة بعقوبة أبدية، تتمثل في الدفع بصخرة ضخمة نحو قمة جبل، غير أنها ما إن تلامس القمة حتى تهوي مجدداً إلى السفح، ليعيد الكرة من جديد، وهكذا بلا نهاية..
- ويتردد صدى هذه الأسطورة، التي ترمز إلى عبثية الجهد الإنساني واستمراره دون طائل، في واقع جهود مكافحة التصحر في السودان؛ إذ تتكرر المبادرات مرة بعد أخرى، لكنها كثيراً ما تتلاشى دون أن تخلّف أثراً مستداماً، كما لو أن صخرة سيزيف عادت لتتدحرج من جديد قبيل بلوغ القمة.
- تعود جذور جهود مكافحة التصحر في السودان إلى عصور ضاربة في القِدم، وتحديداً إلى عهد الملك ترهاقا (690 – 660 ق.م)، الذي يُعد من أوائل من أنشأ حزاماً أخضر لحماية مدينة – هي مدينة الكوة – من زحف الرمال الصحراوية.
- أما في العصر الحديث، فقد بدأت الجهود الرسمية لمكافحة التصحر في السودان عقب صدور تقرير لجنة صيانة التربة عام 1944م، الذي أرجع الظاهرة بشكل رئيسي إلى سوء استغلال الموارد الطبيعية، معتبراً أن تغيّر المناخ لا يعدو أن يكون عاملاً مكملاً يسهم في تفاقم مشكلة يخلقها الإنسان أساساً.
- وفي إطار التدابير الوقائية التي اقترحها، أوصى التقرير بإنشاء أحزمة شجرية تحيط بالمدن، إلى جانب إقامة مصدات للرياح حول المشاريع الزراعية، كخطوة عملية لمجابهة تمدد التصحر.
وهكذا بدأت صخرة سيزيف تشق طريقها صعوداً، فتأسست أحزمة واقية حول مدن مثل الأبيض، الفاشر، طوكر، النشيشيبة بود مدني، كسلا، الجنينة، الخرطوم، ومحيط مصنع الجنيد، إلى جانب حزام التحاميد قرب مشروع الجزيرة، وأحزمة العالياب والسليت، فضلاً عن عشرات الأحزمة الأخرى ومصدات الرياح التي أُنشئت حول المدن والمشاريع الزراعية في مختلف أرجاء البلاد.
- غير أن صخرة سيزيف، وقد كُتب عليها أن تتدحرج قبيل بلوغ القمة، كان لها ما يشبهها في مصير تلك الأحزمة؛ إذ اندثرت وأصبحت أثراً بعد عين، وبالكاد يمكن اليوم العثور على حزام واحد ما يزال قائماً أو مكتمل البنيان من بين جميع ما أُنشئ في السابق.
- ما إن تدحرجت صخرة سيزيف إلى سفح الجبل، حتى بدأت صعودها من جديد؛ كأن التاريخ يعيد نفسه، إذ شرعت ولاية الخرطوم في إنشاء حزام شجري جديد في جهتها الشمالية، وكأنها ما تزال تواصل العناية بذلك الحزام الذي كان قائماً يوماً ما في ناحيتها الجنوبية.
منذ سبعينيات القرن الماضي، شهدت جهود مكافحة التصحر في السودان تعاقباً لعدد من الآليات المؤسسية، بدأت بتأسيس اللجنة القومية لمكافحة التصحر (1972–1976م)، ثم أعقبها المكتب القومي لمكافحة التصحر والجفاف عام 1979م، وتلاه مكتب تنسيق برامج التصحر في عام 1981م. وفي منتصف الثمانينيات، أُوكلت هذه المهام إلى مفوضية الإغاثة وإعادة التعمير (1986م)، ثم تجسدت آخر محطاته في إنشاء الوحدة القومية لتنسيق برامج مكافحة الجفاف والتصحر عام 1991م، في مسار يعكس تذبذباً مؤسسياً واضحاً.
- وفي العام 1998، حين انعقد المنتدى القومي لتقييم جهود مكافحة التصحر في السودان، خلص المشاركون إلى أن هذه الجهود، التي بدأت منذ السبعينيات، حققت بعض النتائج الإيجابية الملموسة. غير أنها ظلت تعاني من التشتت والانفصال بسبب غياب كيان مؤسسي دائم يتولى التنسيق على المستوى القومي، إضافة إلى تأثرها العميق بالتقلبات السياسية التي شهدتها البلاد خلال العقود الماضية.
- واستناداً إلى تلك الخلاصات، أوصى المنتدى بسنّ قانون خاص يُبرز التصحر بوصفه إحدى أخطر الكوارث الطبيعية التي تهدد مستقبل البلاد، وينص على إنشاء كيان مؤسسي دائم يعمل كآلية قومية تنسيقية على أعلى مستوى إداري، بهدف توحيد الجهود وضمان استدامتها ضمن إطار وطني واضح ومتماسك.
وفي عام 2009، صدر قانون مكافحة التصحر، إيذاناً بجولة جديدة لصعود صخرة سيزيف نحو القمة. وقد تم بموجبه إنشاء مجلس قومي يتمتع بالشخصية الاعتبارية والصفة التعاقبية، تحت إشراف رئاسة الجمهورية، ليضطلع بمهمة تنسيق وتكامل القدرات المادية والبشرية لكافة الأطراف الوطنية.
- بحلول عام 2016، ومع تأسيس الأمانة العامة للمجلس، شرعت الأمانة في إعداد وتحديث مجموعة من الأدوات التخطيطية المهمة، من بينها: الخطة القومية لمكافحة التصحر (2019–2024)، البرنامج الوطني لتحييد تدهور الأراضي (2018–2030)، والخطة الوطنية للتخفيف من آثار الجفاف (2019–2021). كما تم الشروع في إنشاء مرصد إقليمي لمتابعة جهود مكافحة التصحر.
- غير أن هذه الديناميكية لم تلبث أن تعثرت، وما إن بلغت الجهود مرحلة إعداد المشاريع التحويلية الكفيلة بترجمة الخطط إلى واقع ملموس، حتى تدحرجت صخرة سيزيف مجدداً نحو السفح؛ إذ شهد العام 2020 إلغاء المجلس القومي لمكافحة التصحر، ذلك الكيان المؤسسي والآلية التنسيقية القومية رفيعة المستوى، في خطوة شكّلت ضربة موجعة لمسار الجهود الوطنية في هذا الملف.
- ولم تتوقف صخرة سيزيف عند السفح، بل تدحرجت أبعد من ذلك؛ إذ طالت موجة التراجع قانون مكافحة التصحر نفسه، فتم تعديلُه بإلغاء 10 مواد من أصل 25، ما أفقده تماسكه، وأفرغه من مضمونه، وأضعف بنيته القانونية والمؤسسية.
هكذا انطفأ الزخم المؤسسي الذي كان قد أعاد لقضية التصحر مكانتها كأحد أخطر التحديات البيئية القومية؛ فتدحرجت، كما صخرة سيزيف، من قمة الاعتراف الوطني ممثّلاً في مجلس قومي يتمتع بالاستقلالية والسلطة التنسيقية، إلى مجرد ملف روتيني متداول ضمن ملفات إحدى الإدارات.
- ولعل الخطوة الأولى نحو كسر هذه الحلقة المفرغة، واستعادة الزخم المفقود، تبدأ بالاعتراف بحجم الفجوة المؤسسية والتشريعية التي تعمّقت على مرّ السنوات، ومن ثم الشروع في بناء منظومة حوكمة بيئية متماسكة وفاعلة، ترتكز على تشريعات نافذة، تسندها إرادة سياسية جادة، ومؤسسات إنفاذ تمتاز بالقوة والعدالة.
- كما أن دمج خطط مكافحة التصحر في صلب استراتيجيات التنمية الوطنية يمثل ضرورة قصوى، لا باعتبارها ملفاً بيئياً معزولاً، بل كأولوية تنموية مترابطة الأبعاد.
- ويتطلب الأمر إعادة بعث المجلس القومي لمكافحة التصحر، ليضطلع بدوره التنسيقي والقيادي على أعلى مستوى، مع ضمان استقلاليته المؤسسية وتوفير الموارد الكفيلة بتمكينه من أداء دوره دون تدخلات سياسية أو بيروقراطية.
- ثمانون عاماً (1944–2025) من دحرجة صخرة سيزيف تكفي.
آن الأوان لكسر هذه الدائرة الجهنمية، ووضع الحجر في موضعه المستحق، لا أن نظل نحمله على ظهورنا، جيلاً بعد جيل، بينما الأرض تذوي والفرص تتلاشى.
- ليس التصحر قدراً محتوما، بل نتيجة للسياسات الغائبة؛ وليس الخروج منه معجزة، بل خيار مؤسسي، يستدعي الإرادة والرؤية.
- لتكن مناسبة اليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف، في 17 يونيو، والتي تُقام هذا العام تحت شعار ‘استعادة الأرض… وفتح أبواب الفرص’، فرصة لنقطة تحوّل حقيقية نحو استعادة ما فقدناه من أرضٍ وإرادة.
المدير الأسبق للهيئة القومية للغابات
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.