علي لربع العامرية وقفة
ليملي علي الشوق والدمع كاتب
فلا وأبي العشاق ما أنا عاشق
إذا هي لم تلعب بصبري الملاعب
ومن مذهبي حب الديار وأهلها
وللناس فيما يعشقون مذاهب
• ابو فراس
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلاة الانوار علي النبي المختار و به الإعانة بدءاً وختماً وصلى الله على سيدنا محمد ذاتاً ووصفاً واسماً. الابتلاء امتحان للصبر والحياة صراع بين الاحزان والافراح ولكن تبقي صلابة اليقين وارادة البقاء وتظل الذكري شجن زاد المحبين وربيع العاشقين في دروب السالكين . بعد عامين ونيفا من الزمان تهيات لي الظروف لمعاودة ديار المحبة وطني الصغير ومهد اسرتي الممتدة وقد صار اثرا بعد عين .
وكما قال الشاعر ابو تمام :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه ابدا لأول منزل
فهو ليس مجرد منزلا يالفه الفتي في الارض فهو محراب الاسرة احتضن لعقود من الزمان حكمة الاجداد الراحلين وتذكار الآباء والاعمام وظل شاخصا بين طيات القلوب ورمزا لاستمرار الحياة بين الاجيال .
هذي الاطلال هي ارث جدي وجدتي نحن اسباط ” سيد وزينب” . سكنت اليه الاسرة وامتلكته كاخر منزل تسكنه في الخرطوم في عام 1942 وكانت الخرطوم “٢ “انذاك ضاحية متباعدة عن قلب الخرطوم وكان الاهل يرددون ” ليه هملت الناس وسكنت الخلا يا سيد ” ولكنه كان رجلا له الرحمة ثاقب النظر حديد البصر يرنو لتاسيس دارا فسيحة لذريته . وقد كانت المنازل في وسط العاصمة اشبه بالحيشان تبني من الطين تقطنها اسر متداخلة او منازل حكومية مملوكة للحكومة مع بعض المنازل الخاصة للطبقة المستحدثة من اثرياء المدينة . كان حي الخرطوم 2 حينئذ شبه خالي من السكان الا من بضع بيوت متناثرة مشيدة من الخشب . .
الان وانا بين اطلال الدار شعرت بوطاة الموت في القلب وقد ضاق الصدر كمدا واعتصرني الالم فطالما كان البيت مستقرا للراحة النفسية والطمانينة في طوافي في دنيا الناس هذه ورغما اني رحلت منذ سنوات من الحوش الكبير ولكن لم يمر يوما من دون الزيارة مهما تعاظمت خطوب الحياة او ضغوط العمل فهو حبلي السري في الوطن ومهوي فؤادي وبعض من دمي وشعوري باني اتلمس الجذور ورحيق الطفولة والصبا ” اليوم يدفعني الحنين فانثني ولهانا مضطربا علي ابوابه .. سبق الهوي عيني في مضماره وجري واجفل خاطري من بابه ” . وتذكرت عندما دلفت الي بقايا الدار مقولة الطاهر وطار عن الاصالة في المقاومة للحفاظ علي الارث في روايته اللاز ” لم يبقي في الوادي غير حجارة ” .
وهالني الحطام وكانما والدي توفي من جديد في هذه اللحظة .. فقد تبعثرت الذكريات وتهدم معظم المنزل بسبب الحرب ونهب الاغراب الظلمة الذين احتلوا المنزل لعامين كل محتويات الدار المادية ومزقوا الارث وكل ماهو متبقي من صور والواح من الاسلاف وهاهي غرفة جدي وجدتي لم يبقي منها شئ ..
الدار ليس حجارة ولكنه نسيج القلب ومسام الروح ومهجة الوجد والحنين .. عند تلك الزواية كانت مجالس الاسرة والديوان الفسيح ” وشراب الشاي عند المغربية وتناول القراصة عند ليالي الشتاء الباردة ” وذكريات والدي المحببة عن ابيه واسرته وغرفة شقيقه ” منعم ” .. وتلك الاشجار التي جفت وكانت شامخة لعقود من الزمان خلون تظلل حياتنا بالمحبة وتثمر بالشجن والمودة وزهورها كانت بها شئ من ندي الحنين .
كان الاحتراب في منزلنا ماثلا قصفا بالطيران والمدافع .. ما ذنبنا .. ولعله قدرنا ان يكون الدار علي مقربة من مطار الخرطوم وقيادة الجيش ومن سخرية القدر ان تاريخ اسرتنا في خرطوم الناس هذه اقدم .. فقد هاجر اليها قومي منذ ان كانت قرية او مدينة في براعم الطفولة واعتمروا الريف اولا في القري القريبة وهم مهاجرون من الشمال ثم دلفوا الي المدينة منذ ان كانت مسرحا للرعي وارضا للزرع ومنهلا للتعليم في بواكيره . وهي اسرة تمسكت بالعروة الوثقي من التدين فيها عظيم من البساطة .. فهم قرويون في المدينة ومدنيون مع بعض الريفية في القرية . انتبذوا الحياة العامة كحال عموم السودانيين يسعون لتربية الابناء والتعليم وهو مقصدهم لصلاح الابناء ومستقبلهم لا يرجون مالا ولا مجدا في الارض غير رضاء الخالق ومحبة الخلق .. لهم محبة متوارثة للسادة الختمية وطالما حكي لي الوالد انه وشقيقه انتظرا لشهرين لم يلتحقوا بالتعليم حتي يعود السيد علي من الشمالية فذهبا برفقة عمهما لنيل البركة والفاتحة من السيد علي حتي تكون دعوته المنارة للتعليم .. وفي الريف الشمالي لامدرمان في ارض الخير ” اسلانج” كان تعلق العشيرة بالسادة السمانية اهل الاشراق والتجلي ..
تحاصرنا الاحزان وقد تهدم المقام وتنكبت بنا الحياة بالنزوح والتشتت في البقاع والنهب والسرقة وضياع جهد وعرق مسكوب لعقود من الزمان ونحن نتقبل امر الله شاكرين ولكن تبقي هذه زكاتنا لوطن ارحب وسلم وطيد .
نحمد الله الذي نزع من قلوبنا روح الانتقام كما تنزع الشوك من الازهار .. الحمد لله الذي جعلنا من اهل العفو ومن الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس . فالمحبة لا تجتمع مع الكراهية والدين محبة والاشراق يستوجب اللطافة ونرجو من الله ان يمدنا بالنور واللطافة ويبعد عنا سخائم الكثافة .
اللهم ارزقنا الثبات وانعم علينا بالرحمة وافتح لنا دروب التسامح وابعدنا عن البغضاء والطف بالسودان وشعب السودان .. الوطن لا يعمر بالكراهية بل بالمحبة وتوحيد الوجدان القومي ونبذ خطاب العداء الاثني والجهوي بالعدالة والحرية .. والسلام ياوطني السلام ..
عزة ما سليت وطن الجمال
ولا أبتغيت بديل غير الكمال
وقلبي لي سواك ما شفتو مال
خذيني باليمين وانا راقد شمال
عزة ما نسيت جنة بلال
وملعب الشباب تحت الظلال
ونحن كالزهور فوق التلال
نتشابي للنجوم وانا ضافر الهلال
عزة جسمي صار زي الخلال
وحظي في الركاب صابه الكلال
وقلبي لسه ما عرف الملال
أظنه ود قبيل وكريم الخلال
خليل فرح
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.