الحلقة الخامسة
مدخل:
في يونيو من العام 2021، نشرتُ في صحيفة «التيار» سلسلة تحقيقات استقصائية من نحو ثماني حلقات تحت عنوان:
“الجيش والسياسة.. كيف دخل «العسكر» في صراع السلطة في السودان؟”
وقد سعيت من خلالها إلى تسليط الضوء على واحدة من أعقد قضايا تاريخ الدولة السودانية المعاصرة:
كيف أصبح الجيش طرفًا أصيلًا في صراع السلطة؟.
ومن المسؤول عن إدخاله في هذا المسار؟
شكلت تلك السلسلة النواة الأولى لمشروع أوسع، تمثّل في إعداد كتاب يحمل العنوان نفسه، وهو عمل بحثي توثيقي وتحليلي ما يزال قيد الإعداد، ويُتوقع أن يرى النور قريبًا.
وعبر هذه السلسلة من المقالات، سأقدم مقتطفات منتقاة من الكتاب، تستعرض تطور العلاقة بين الجيش والسياسة، وتُحلل ديناميكيات السلطة، وتطرح الأسئلة الجوهرية التي ظلّت معلقة لعقود، دون إجابات قاطعة.
بين انتكاسة الديمقراطية وميلاد السلطوية
بعد خمس سنوات فقط من ثورة أكتوبر 1964، التي أعادت الحكم المدني وألهبت الآمال ببناء سودان ديمقراطي، عاد الجيش ليقتحم المشهد السياسي مجددًا.
انقلاب 25 مايو 1969 لم يكن مجرد حدث معزول، بل تعبيرٌ عن أزمة بنيوية عميقة في علاقة السلطة بالمجتمع، وعن فشل النخب في ترسيخ قواعد اللعبة الديمقراطية.
في هذه الحلقة، نقترب من لحظة مفصلية دشّنها جعفر نميري بتحالف مضطرب مع الحزب الشيوعي، وانتهت بسقوط دموي لذلك التحالف، قبل أن ينزلق النظام إلى قمع واسع انتهى بانتفاضة شعبية أطاحت به في أبريل 1985.
ليلة الانقلاب: نميري في بيت الشيوعي الأول
في ليلة 24 مايو 1969، خيّم الصمت على الخرطوم، بينما كانت الخطة تُنفذ في الظل. في الرابعة عصرًا، توجّه العقيد جعفر نميري إلى منزل عبد الخالق محجوب، زعيم الحزب الشيوعي السوداني، ليبلغه بحسم الأمور:
يقول النميري: “أخبرته أن الحركة تسيطر على كل المرافق المهمة، وأي مقاومة ستسفك دماء. وافق محجوب على عدم التدخل، لكني أمرت اثنين من رجالنا بمراقبة منزله.”
ومع انبلاج فجر 25 مايو، كان الجيش قد انقضّ على السلطة، ودشّن مرحلة جديدة في تاريخ السودان السياسي.
انقلاب مايو.. لحظة التحول الحاسمة
مثّل انقلاب نميري لحظة فاصلة في علاقة الجيش بالسلطة.
لم يكن تحركًا معزولًا، بل نتيجة مباشرة لتراكمات الفشل السياسي بعد ثورة أكتوبر، ولعجز النخب المدنية عن إدارة البلاد. ومنذ ذلك اليوم، لم يعد الجيش مجرد حامٍ للدستور، بل صار فاعلًا سياسيًا بامتياز، يعيد رسم المشهد السياسي والاجتماعي وفق أجندته.
وشكل تحالف نميري مع الشيوعيين، ثم انقلابه عليهم لاحقًا، أول صدام دموي بين المشروع العسكري ومشاريع القوى المدنية، سواء كانت يسارية أو يمينية.
تحالف مضطرب: الشيوعيون والانقلاب
رغم علم الحزب الشيوعي بتحركات الضباط الأحرار، فإنه لم يعارضها.
بل إن عددًا من أعضائه باركوا الانقلاب بعد نجاحه.
وبرغم حظر الأحزاب لاحقًا، واصل الشيوعيون نشاطهم سرًا، مما ولّد صراعًا مكتومًا سرعان ما خرج إلى العلن.
يقول نميري:
“معظم المشاكل نجمت عن استمرار صلة الشيوعيين بحزبهم، وكانوا يحاولون توجيه الوضع بصورة خاطئة.”
وبعد ثلاثة أشهر فقط، بدأ في إقصاء العناصر الشيوعية من الحكومة.
يوليو 1971: الانفجار الكبير
في يوليو 1971، نفّذ جناح يساري داخل الجيش بقيادة الرائد هاشم العطا محاولة انقلابية. اعتقلوا نميري، وأعلنوا حكومة جديدة أكثر راديكالية. غير أن المحاولة لم تعمّر أكثر من 72 ساعة، إذ تحركت قوات موالية لنميري، واستعادت السلطة.
مجزرة الشجرة.. نهاية الحلم الأحمر
أعقبت المحاولة الانقلابية حملة اعتقالات شرسة ومحاكمات عسكرية عُرفت بـ”محاكمات الشجرة”. أُعدم قادة بارزون في الحزب الشيوعي، من بينهم عبد الخالق محجوب، والشفيع أحمد الشيخ، وجوزيف قرنق، وهاشم العطا. هذه الإعدامات هزّت الرأي العام، ومثّلت نهاية دموية لحضور الشيوعيين في مركز السلطة.
عهد نميري: انتهاكات متكررة وقمع واسع
ـ اعتقال الأزهري: بعد انقلاب مايو، اعتُقل الزعيم إسماعيل الأزهري، وتوفي لاحقًا في المعتقل. واكتفى النظام بنعيه بعبارة مقتضبة: “كان معلمًا ثانويًا”.
ـ مجزرة الجزيرة أبا وود نوباوي (1970): واجه النظام انتفاضة الأنصار بعنف مفرط، وقُتل الإمام الهادي المهدي في ظروف غامضة، ودُفن سرًا.
ـ إعدام محمود محمد طه (1985): في خواتيم عهد نميري، أُعدم المفكر الجمهوري بتواطؤ واضح من تيارات الإسلام السياسي.
السقوط الأخير: انتفاضة شعبية تُنهي عهد العسكر
استمر نميري في الحكم 16 عامًا، شهدت محاولات انقلابية متكررة، وانتهاكات واسعة، وانتهت بانتفاضة أبريل 1985. حينها، انحاز الجيش بقيادة المشير عبد الرحمن سوار الذهب إلى الشارع، وأطاح بنظام مايو، قبل أن يُسلّم السلطة لحكومة مدنية برئاسة الصادق المهدي.
بداية عهد العسكر الطويل
جاء انقلاب مايو تتويجًا لفشل النخب المدنية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى كابوس سلطوي تحت قبضة العسكر.
لم تكن تجربة نميري مجرد انحراف عن الديمقراطية، بل كانت تأسيسًا لمرحلة جديدة ظل فيها الجيش فاعلًا مركزيًا في معادلة الحكم، يتحالف حينًا مع المدنيين، وينقلب عليهم حينًا آخر.
ومنذ ذلك الحين، ظل السودان يدفع ثمن عسكرة السياسة، في دوامة من الانقلابات، والانقسامات، والقمع.
فما بدأ في مايو 1969، لم ينتهِ في أبريل 1985، بل تدحرج ككرة نار في تاريخ السودان الحديث، لا تزال تحرق ما تبقّى من أملٍ في دولة مدنية مستقرة.
المراجع:
جعفر محمد نميري، النهج الإسلامي لماذا؟ كيف؟
محمد نصر، أوراق مايو السياسية
أنتوني سلفستر، السودان في عهد نميري
عبد الله علي إبراهيم، الشيوعيون والقوى الحديثة في ثورة أكتوبر
منصور خالد، النخبة السودانية وإدمان الفشل
مقابلات صحفية ومصادر أرشيفية متنوعة
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.