الحلقة الثالثة
انقلاب 17 نوفمبر: تسليم السلطة أم خيانة ديمقراطية؟—
مدخل:
في يونيو من العام 2021، ومن خلال سلسلة مكوّنة من نحو ثماني حلقات تحقيقية استقصائية نشرت في صحيفة « التَيَّار » بعنوان:
الجيش والسياسة.. كيف دخل « العسكر » في صراع السلطة في السودان؟
حاولت تسليط الضوء على واحدة من أعقد القضايا في تاريخ الدولة السودانية المعاصرة:
كيف أصبح الجيش طرفًا أصيلًا في صراع السلطة؟ ومن المسؤول عن إدخاله في هذا المسار؟
وقد شكلت تلك السلسلة نواة مشروع أوسع، شرعتُ من خلاله في إعداد كتاب يحمل ذات العنوان، وهو عمل بحثي توثيقي وتحليلي، ما يزال قيد الإعداد، وقد يرى النور قريبًا.
سأحاول عبر هذه السلسلة من المقالات أن أقدّم مقتطفات منتقاة من الكتاب، تستعرض مراحل العلاقة بين الجيش والسياسة، وتُحلل ديناميكيات السلطة، وتطرح الأسئلة الجوهرية التي ظلّت معلقة لعقود دون إجابة واضحة.
أجواء ما قبل الانقلاب: محاولات في اللحظات الأخيرة
يروي السياسي البارز محمد أحمد المحجوب، رئيس الوزراء ووزير الخارجية لاحقاً، في كتابه الديمقراطية في الميزان، أنه عاد إلى الخرطوم أواخر أكتوبر 1958 بعد مشاركته في اجتماعات الأمم المتحدة، ليجد البلاد تغلي بأنباء عن انقلاب وشيك (المحجوب، 1974).
وكان زعيم حزب الأمة، الصديق المهدي، يقضي عطلة في أوروبا، بينما دُعي البرلمان لاجتماع حاسم في 17 نوفمبر.
دخل حزب الأمة في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية جديدة مع الحزب الوطني الاتحادي، تحل محل الحكومة المضطربة مع حزب الشعب الديمقراطي. العقبة الكبرى كانت في اختيار رئيس الوزراء، حيث أصر عبد الله خليل على البقاء في منصبه، بينما طالب إسماعيل الأزهري باستعادته.
تمكن المحجوب من إقناع الأزهري بقبول رئاسة مجلس النواب، وهو منصب بروتوكولي رفيع، وإن كان بلا صلاحيات تنفيذية (نفس المصدر).
لحظة الانقلاب: طي صفحة السياسة فجراً
يضيف المحجوب: “في الساعة 11 من ليل 16 نوفمبر، تم الاتفاق النهائي على تشكيل حكومة ائتلافية قوية ومستقرة. نمت تلك الليلة وأنا أظن أن مشاكلنا قد حُلت”.
لكن ما لبث أن أيقظه عند الرابعة فجراً ضابط يحمل رشاشاً ورسالة تعلن استيلاء الجيش على الحكم وإقالته من منصبه، وتشكره على خدماته (المحجوب، 1974).
وُضع عبد الله خليل والأزهري قيد الإقامة الجبرية، وأُعلن تشكيل “قيادة ثورية عليا” من 12 ضابطاً بقيادة اللواء إبراهيم عبود، الذي شكل حكومة من 8 ضباط و5 مدنيين. وفي بيانه الأول، هاجم عبود الفساد وعدم الاستقرار السياسي، معلناً أن الجيش تحرك “لإنقاذ البلاد”.
حل الأحزاب وإلغاء الدستور
سرعان ما أعلن النظام الجديد حلّ الأحزاب السياسية ومنع التجمهر والمواكب، وأغلق الصحف، وألغى الدستور المؤقت، وحلّ البرلمان وكل المؤسسات الديمقراطية، وأُعلنت حالة الطوارئ والأحكام العرفية.
كما تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، واحتفظ عبود بقيادة الجيش.
انقلاب بمباركة الزعامات الدينية
حظي الانقلاب بمباركة فورية من أبرز الزعامات الدينية في البلاد، على رأسهم السيد عبد الرحمن المهدي، زعيم الأنصار، والسيد علي الميرغني، زعيم طائفة الختمية (أرشيف صحيفة السودان الجديد، نوفمبر 1958).
أما سياسياً، فقد انقسمت المواقف؛ فبينما انخرطت أغلب الأحزاب في معارضة الحكم العسكري، تولى الصديق المهدي قيادة جبهة المقاومة من داخل حزب الأمة.
السياسات القمعية وتعقيد الأزمة الجنوبية
اتجه النظام الجديد سريعاً إلى التضييق على العمل الحزبي، وأدار ملف الجنوب بسياسات فاقمت التوتر. فقد سعى عبود إلى فرض التعريب والأسلمة، وأصدر قوانين تحد من النشاط التبشيري، كما فرض يوم الجمعة عطلة رسمية بدلاً عن الأحد.
وكانت تلك السياسات سبباً في انطلاقة جديدة للنشاط السياسي والعسكري الجنوبي. ففي عام 1963، تأسس “الاتحاد الوطني الأفريقي للمناطق المقفولة”، ثم ظهر تنظيم “جيش الأرض والحرية” الذي تطور لاحقاً إلى حركة أنانيا المسلحة (أرشيف صحيفة السودان الجديد، 1959).
نهاية حكم العسكر: أكتوبر تعيد المدنية
استمر حكم الجنرالات ست سنوات اتسمت بالقمع والانهيار الاقتصادي وتصاعد الحرب الأهلية، إلى أن أطاحت بهم انتفاضة شعبية في 21 أكتوبر 1964. أُعيد العمل بالدستور المؤقت، وشُكلت حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة، وأُعيدت الحياة البرلمانية.
خيانة ديمقراطية أم إنقاذ وطني؟
يرى كثير من المراقبين أن حزب الأمة ارتكب خيانة تاريخية بتسليم السلطة طوعاً للعسكر، في سابقة خطيرة أدخلت الجيش في معادلة الحكم لأول مرة.
ووفقاً لوثائق وزارة العدل عام 1964، فقد عُقدت اجتماعات مكثفة بين عبد الله خليل والجيش لتدبير الانقلاب، بإقناع من خليل للسيد عبد الرحمن المهدي بأن عبود سيُعلنه رئيساً للجمهورية (وزارة العدل، 1964).
واعترف الفريق عبود لاحقاً للجنة التحقيق بأنه استُدعي قبل أيام من افتتاح البرلمان من قِبل عبد الله خليل الذي وصف الوضع السياسي بالكارثي، واقترح استلام الجيش للسلطة “كحل وحيد” (نفس المصدر).
التأسيس لمرحلة العسكر
بهذا الانقلاب، دُشّنت أولى الحلقات في ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ”الدائرة الجهنمية”، وهي التناوب بين الديمقراطيات والانقلابات العسكرية (عبد الله علي إبراهيم، 2000).
فتح قرار عبد الله خليل شهية العسكر، وأوحى لأحزاب أخرى بإمكانية بلوغ السلطة عبر دعم العسكر، لا عبر صناديق الاقتراع.
وظلت مشاركة الجيش في الحكم مثار جدل واسع في السودان، حيث تغلب على تجاربه السياسية النزعة الشمولية والتضييق على الحريات العامة، ما يتنافى مع التقاليد الديمقراطية الراسخة في المجتمعات المتحضرة.
وهكذا دخل الجيش لأول مرة في متاهات السياسة، وبدأت رحلة عسكرة الدولة السودانية… رحلة سنواصل تتبع فصولها في الحلقات القادمة.
—
المراجع والمصادر:
- محمد أحمد المحجوب، الديمقراطية في الميزان، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1974.
- وزارة العدل السودانية، تقرير لجنة التحقيق في انقلاب 17 نوفمبر 1958، الخرطوم، 1964.
- عبد الله علي إبراهيم، الثورة والدولة في السودان: جدل الديمقراطية والعسكرية، مركز الدراسات السودانية، 2000.
- تقارير صحفية معاصرة، أرشيف صحيفة السودان الجديد، نوفمبر 1958 – مارس 1959.
—
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.