الحلقةالثانية
مدخل
منذ الاستقلال، ظل الجيش السوداني لاعبًا حاضرًا في مسرح السياسة، لا سيّما في لحظات الأزمات. فهل كان ذلك نتاجًا لطموح ذاتي للمؤسسة العسكرية، أم نتيجة لدعوات متكررة من السياسيين؟
هذه السلسلة، المستلهمة من مشروع كتاب قيد الإعداد، تسعى لإعادة قراءة اللحظات المفصلية التي شهدت تدخل الجيش في الحكم، عبر الشهادات والوثائق والتحليل النقدي.
نعيد فتح الملفات لا لنبكي على أطلال الماضي، بل لفهم كيف وصلنا إلى ما نحن فيه، وربما كيف نخرج.
انقلاب 1958: لحظة البداية… ولكن بأي يد؟
في التاريخ السياسي السوداني، لا توجد لحظة أكثر إثارة للجدل من انقلاب 17 نوفمبر 1958. لعقود طويلة، رُويت تلك اللحظة كقفزة مفاجئة قام بها الجيش نحو السلطة، متجاوزاً القوى السياسية ومعلناً انقلابه على الديمقراطية الوليدة.
لكن ماذا لو لم يكن الانقلاب مفاجئاً؟
ماذا لو كانت السياسة هي من استدعت الجيش، ثم ندمت؟
رسالة الإمام الصديق المهدي: التأييد المشروط للعسكر
في مذكراته “هوامش وشذرات على سيرة ذاتية”، يكشف الدكتور منصور خالد عن رسالة بعث بها الإمام الصديق المهدي إلى القائم بالأعمال الأمريكي في الخرطوم، أقرّ فيها بأن الأنصار – ممثلين في قيادتهم الدينية والسياسية – أيدوا الانقلاب، بشرطين: أن يحافظ العسكريون على استقلال السودان، وأن يعيدوا الديمقراطية في أقرب وقت.
وأضاف الإمام في رسالته أن العسكر التزموا بالشرط الأول، لكنهم “حنثوا بالثاني”.
اللافت هنا أن الإمام لم ينفِ التأييد، بل نفى فقط وجود “اتفاق سري”، وهو ما يكشف أن أكبر الطوائف السياسية حينها رأت في تدخل الجيش مخرجًا مؤقتًا من مأزق سياسي معقّد.
شهادة اللواء عبد الوهاب: من دفع الجيش للواجهة؟
الصورة تزداد وضوحاً حين ننتقل إلى شهادة اللواء أحمد عبد الوهاب، أحد كبار الضباط المشاركين في الانقلاب.
في إفادته أمام لجنة التحقيق التي رأسها القاضي صلاح شبيكة، قال إن رئيس الوزراء عبد الله خليل هو من اقترح على الفريق عبود أن يتولى الجيش السلطة، عبر حكومة مدنية–عسكرية مختلطة تضم سياسيين كبارًا مثل الأزهري وعبد الله خليل نفسه.
لكن الجيش رفض أن يكون حارسًا بلا سلطة، فقال خليل عبارته الشهيرة: “على بركة الله، ده أحسن مما تروح البلد في داهية.”
عبد الله خليل: السياسي الذي سلّم لا الذي أُطيح به
بهذه العبارة، اكتمل المشهد: الجيش لم ينقلب من تلقاء نفسه، بل استُدعي إلى قلب المشهد السياسي بتوصية من رأس الحكومة.
فهل كان عبد الله خليل يحمي الوطن، أم ينقذ سلطته؟
يرى البروفيسور عبد الله علي إبراهيم أن خليل لم يكن مجرد سياسي، بل رجل ذو إرث عسكري ونزعة سلطوية، دفعته إلى تسليم السلطة لا عن ضعف، بل عن تصميم.
“تسليم وتسلم”.. حين تصنع السياسة انقلابًا ناعمًا
في مقاله الشهير “انقلاب 17 نوفمبر 1958.. حتّامًا تسارى التسليم والتسلم في الظلم”، يرى المفكر والكاتب ذائع الصيت البروفيسور عبد الله علي إبراهيم أن ما جرى لم يكن انقلابًا تقليديًا، بل “عملية تسليم وتسلم” هندسها عبد الله خليل بوعي كامل، وأعدّ بيانها بيده.
وهكذا، لم يفتح خليل باب العسكر فقط، بل أغلقه خلفه، في سابقة خطيرة تم استدعاؤها لاحقًا لتبرير كل الانقلابات التالية.
هل كان الجيش مجرد أداة؟ قراءة في مشروعه الذاتي
السردية التقليدية تقول إن الجيش تدخل بتحريض مدني، وأنه لا يتحرك من تلقاء نفسه.
لكن هذا التصور مضلل، كما يوضح عبد الله علي إبراهيم. فالجيش – في السودان كما في كثير من دول المنطقة – طور مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا خاصًا به، وجعل من نفسه طبقة فوق الرقابة المدنية، ذات امتيازات ونفوذ مستقل.
وهذا ما يفسر كيف أن انقلاب مايو (بدعم شيوعي)، وانقلاب يونيو (بدعم إسلامي)، كانا مجرد أغطية أيديولوجية لمشروع سلطوي عسكري.
رواية أم عقيدة؟ مأزق سردية التسليم والتسلم
وساعد على ترسيخ هذه السردية استدعاء أدوار الأحزاب في انقلابات لاحقة. فأصبح الجيش يبدو كأنه “محايد”، لا يتحرك إلا بتفويض مدني.
لكن مراجعة الوثائق بحسب إبراهيم تكشف هشاشة هذا الطرح.
تقرير لجنة التحقيق، والوثائق الأمريكية التي نشرها محمد علي صالح، تشير إلى تناقضات جوهرية:
عبد الله خليل قال إنه صاحب فكرة الانقلاب، بينما أنكر عبود ذلك لاحقًا.
ثم عاد خليل لينفي علمه بالانقلاب، زاعمًا أنه “كان يظن أن الجيش مبسوط”!
حين يتحدث الأرشيف الأمريكي: عبود وخليل وجدل الأصل والفصل
السفير الأمريكي في الخرطوم نقل روايات متضاربة من الطرفين. وهو ما يفتح الباب لتحليل دوافع الجيش نفسه: لماذا خرج على التفاهم مع البيه؟
هل كان الانقلاب فقط رد فعل، أم تعبيرًا عن مشروع حكم ذاتي؟
عبد الله علي إبراهيم يلمّح هنا إلى أن “عقيدة التسليم والتسلم” كانت مدخلاً لتبرئة الجيش من التآمر، لكنها في الحقيقة غيّبت دوره الحقيقي كفاعل سياسي.
عبد الله خليل: الضابط الذي لم يخلع بزّته يوم دخل السياسة
لم يكن عبد الله خليل سياسيًا تقليديًا، بل كان ضابطًا في هيئة سياسي. حمل رتبته العسكرية في وجدانه وسلوكه حتى بعد أن خلعها رسميًا.
وكان ذلك هو جوهر المأساة: أنه رأى السياسة بعين العسكر، وتصرف كأن إدارة الدولة لا تختلف عن إدارة السرية.
ولد خليل في بيئة عسكرية صارمة، وتدرّج في الرتب حتى صار أميرالايًا في الجيش السوداني – المصري المشترك، قبل أن يستقيل وينخرط في العمل السياسي، مؤسسًا لحزب الأمة، ثم زعيمًا لحكومته في فترة مضطربة من تاريخ السودان بعد الاستقلال.
لكنه ظل يحمل داخله عقدة الضابط المهزوم سياسيًا.
لم يكن خطيبًا مفوّهًا ولا مفكرًا سياسيًا كالأزهري أو عبد الخالق محجوب، بل رجل مؤسسي، بيروقراطي، يخشى الفوضى، ويُجيد الصمت أكثر من الجدال.
حين بدأ حزبه يتراجع في مواجهة التيار الاتحادي، وأوشك على فقدان السلطة عبر صناديق الاقتراع، لم يفكر خليل في الهزيمة السياسية، بل استدعى الانضباط العسكري. تواصل مع زملائه السابقين في الجيش، ونسّق انقلابًا ناعمًا، وسلّم البلاد للفريق عبود، ظانًا أنه بذلك ينقذ الأمة والوطن. لكن العسكر، كما هي عادتهم، لم يتوقفوا عند “الإنقاذ”، بل مضوا في الحكم منفردين، وتركوا خليل خارج اللعبة.
لم يغفر له التاريخ، ولا حزبه، هذه السقطة. طُرد من حزب الأمة، وأصبح معزولًا سياسيًا حتى وفاته. لكنه ظل، رغم كل شيء، أول من كسر الجدار بين المدني والعسكري في الحكم السوداني، وأول من جرّ العسكر إلى دهاليز السياسة.
لحظة تواطؤ
لم يكن انقلاب نوفمبر 1958 مجرد انقضاض على الديمقراطية الوليدة، بل كان لحظة تواطؤ أو انكشاف متبادل بين السياسة والعسكر.
وما يُحزن في هذه الرواية ليس فقط فعل الانقلاب، بل رضى بعض النخبة المدنية به، وربما سعيها إليه.
إن مراجعة هذه اللحظة لا تنبع من رغبة في جلد الذات، بل من إدراك أن كل انقلاب لاحق وُلد من رحم هذا “التسليم والتسلم”، وأن الخروج من هذه الحلقة لا يبدأ بإدانة الماضي فقط، بل بامتلاك شجاعة السؤال: كيف نكسر القالب الذي صنعناه بأيدينا؟
المراجع:
1. منصور خالد، هوامش وشذرات على سيرة ذاتية، دار الأمين، القاهرة، 2004.
2. عبد الله علي إبراهيم، انقلاب 17 نوفمبر 1958.. حتّامًا تسارى التسليم والتسلم في الظلم، مقال منشور على موقع “الراكوبة”.
3. عبد الله علي إبراهيم، الثقافة والديمقراطية في السودان، دار الخرطوم للطباعة، 1996.
4. محمد علي صالح، “وثائق أمريكية عن انقلاب 1958″، سلسلة مقالات منشورة في صحيفة “الشرق الأوسط”.
5. محاضر لجنة التحقيق في انقلاب نوفمبر 1958، برئاسة القاضي صلاح شبيكة (غير منشورة، مقتطفات متاحة في كتابات لاحقة).
6. محمد أحمد المحجوب، الديمقراطية في الميزان، دار المعارف، القاهرة، 1969.
7. تقارير السفارة الأمريكية في الخرطوم، الأرشيف الوطني الأمريكي، (FRUS).
—
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.