السفير جمال محمد إبراهيم يكتب :في رحيْل صـديقي الرُّمح الملتهب

يا صديقي الصّدوق. .لماذا لم تتِح ليَ الأقـدار أن أودّعـك أيها العزيز الوداع الذي يليق ، وأنت القريب منّي في أم درمان، جاري في السكن بمدينة المهندسـين أيام جمالها وهدوئها وأيام استهدفها الأشرار، ثمّ وأنت شريكي في المهـنة أيّام عِـزِّها وأيّام تمكينها بسـوانا. . ؟

مُنذ بواكير شــبابنا، تقاسمنا أصدقاءا من قـبل أن نكون أصدقاء أنا وأنــت. كنا جميعنا في مداخل استاد الهلال وأنت في غمار المهنئين يوم زفاف رفيقة دربك والمكان من زحامه كأنّهُ لقاء هلال مريخ. وقفنا جوارك لصورة جماعية، لربّما كانت بينَ مقتنياتك الشخصية التي سطا الأشــرار ونهبوها ضمن ما نهبوا.

أولئـك الذين لا يعرفون أنَّ ما نهبوا ليس ما تملك أنت، بل هـو تاريخ نهضة الرياضة في السّـودان وانتصاراتها غير المسبوقة التي وثقتها أجهزة الإعلام المشاهدة والمسموعة، وأيضا كتباً مؤلفة عن بذل “الرّمح الملـتهب” الذي عـزّزَ زعامـة السًــودان للـرياضة فـي القارة السَّمراء في سبعينيات القرن العشرين. . 

(2)

لا. . لنْ أحـدّث عـن بذلـك في سـاحات الرياضة وهو تاريخٌ معروف، ولا في ســاحات الدبلوماسية فوزارة الدبلوماسية تعلمه .

دعوني أحدّـث عن إقترابي منـك وأقترابك مِنّي ، وما صارت حالنا معـاً من محبّـة الوشائج وطِـيْـبة التواصل، ومع كلِّ ذلك فإنْ شـرَّقتُ أنـا أو غرّبتَ أنت فالظافر في أيّ اتجاه يمَّمناهُ كان هو وجه هو الوطن.

في سنوات بعيدة ، ولربّما في سنوات التسعينات، طلبني والدي الحاج محمد الشقليني عليه رضوان الله ، لمشوارٍ إلى حيّ العرضة ليقدم واجب عزاءٍ في رحيل صديق قديم له، زامله في “شركة النور” على أيّام الترام ، قبل حقبة بصّات “العظمة” و”أبورجيلة”، تلك التي يعرفهما صديقنا الجنرال مصطفى العبّادي. سألتْ الوالد من صديقك الذي نعزّي ؟ قال لي: “صديقي الذي رحل هو محمد سعيد، الذي جمعتنا سنوات المهنة أيام الترام والمعـديّات”.

وما أنْ وصلنا إلى سُـرادق العزاء ، إلا وقد أدركتُ أنّ الرّاحل هو والد زوجة زميلي الحبيب حيدر حسن حاج الصّديق. . فاكتشفت أنّي جئتُ لأعزّي “علي قاقارين” في رحيل والد زوجته و كمال “آفرو” شقيفها. ذلك زمان ما قبل التواصل الاجتماعي الالكتروني. رحم الله الشيخ محمد سعيد ولكم سمعتُ عنه الكثير من لسان والدي. تلك من الإشارات التي كنا فيها معاً من “ذوي القربى” أيها الصديق الحبيب.. 

(3)

تمرّ السنوات بيننا ونحن من سفارة إلى أخرى، ولكن لم يكتب لي أو لهُ، أن نلتقي في سـفارة أو في إدارة من إدارات وزارة الخـارجيـة، وتلـك طبيـعة المهـنـة الدبلوماسية ، تجمعنا لمرَّات قليلة وتفرّق بيننا لسنوات طوال. قليلة هيَ أيام تواصلنا الإجتماعي ذلك الزمان، لكني أتذكر المرّات التي كنّا نلتقي فـيها ونحن أصدقاء في داره الرّحبــة في مدينــة الثورة بأم درمان.

عُدتُ مرَّة من احدَى مهامي الخارجية لأجـده قد انتقل إلى مدينة المهندسين بأم درمان، وأنا من ساكني ذلك الحي الغربي الهادي، ولـ”الأحياء الغربية” دائماً قصصٌ وأفـلام، تعرفها أجيال ستينات القرن الماضي. لكمْ سـعدتُ بجيرته لي وكنتُ قد سبقته للسُّكنَى هناك بسنوات في مُربّع 30 ، وهو انتقل للسكنى في مربّع 29، فتوطـدتْ الصّداقة وتعزّزَ تواصلنا بالإقتراب السُّكني . ثانية يريد لنا القـدر أنْ نلتقي في تقارب أخوي معافى بين أسرتينا الصغيرتين، ونمت أشــجار الصداقة بين زوجتينا فكان للـودِّ ثمراتٌ قِطاف. غير أن المهنة الدبلوماسية ظلت بطبيعتها تأخذنا إلى أصـقاعٍ متباعدة ، يكون صديقي في ساحل العاج وأكون أنا في الصين، أومرّة هـو في باريس، وأكون أنا في السعودية. تغيب أخباره عنّي فاتحرّاها مرّة في الوزارة ، أو مرّةً من “كمال أفرو”- شقيق رفيقة دربه- وكمال هوالقويِّ الحضور في أم درمانه التي يحب. .

 

(4)

لكن تريد الأقدار- لي ولهُ – أنْ نتقاسـم بعض لحظات عَـنَتٍ وَرهَق، فلا نضيق، إذ لنا في التقائنا عزاء.

أحدّثكم عن البدعِ الجنـونية عند مهووسي بعض شباب حزب المؤتمر الوطني التي ارتضاها الإسلامويون سـنواتهم الأولى، ومنها بدعة إخضاع كبار قياديي الخـدمة المدنية فرضاً وإجباراً ، لدورات تدريبٍ عسكريٍّ تحت لافتة الدفاع الشعبي، وهو أمرٌ درجتْ الدول الراشدة لتدريب شبابها كجند احتياط وهم في سنواتهم الباكرة.

أمَّا أنا ، ومعي صديقي حيدر وثلة من قياديي الخدمة المدنية، فقد كنّا كبارا فوق سِن الأربعين أو الخمسين، فطلبونا قسراً إلى إحدى تلك الدورات الجبرية. لا يعلم المهووسـون أننا من جيل تلقّى اختيارياً تدريباً عسكرياً ونحن في شرخ الصِّبا في مراحل تعليمنا الثانوي بما يسمى حصص “الكاديت”. . إمعاناً في الإذلال حين أدخلونا دورة الدفاع الشعبي، جاءوا بفـتىً في أوّلِ ثلاثـيـناته مُشرفاً علينا، يسمعنا عبارة يا “خسائر” بين الفينة والأخرى وفينا من بلغ سنّه سن والد ذلك الفتى. عرفنا حينها كيف تُضيّعَ قيمة توقير الكبار .

حتى في لحظات المعاناة تلك، تقاسـمنا التعاسة أنا وصديقي الحبيب علي قاقارين. .

 

(5)

شاركني أخي الحبيب حسرةَ أن يُهـمَـل ما اكتسبنا من خبراتٍ وتجارب في الدبلوماسية، أتاحتها لنا وزارة الدبلوماسية نفسها ، لكوننا مهنيّيـن ملتزمين بأداءٍ نوطّـد عبرهُ و بإسهامٍ متواضع وبلا استعلاء ، عِـزّةَ لوطنِ تربينا على قـيَمهِ، لا لقـيَـمٍ لحزبٍ سياسي، أو لعصبية جماعةٍ تجنح بأنانيـةٍ وغطرسة، للسيطرة على أمور البلاد وأحوالها. ما هـمّهم مثل هـمِّ الأمـم الرّاشـدة، التي تستفيد من خبرات دبلوماسييها فالدبلوماسية لا تحال إلى التقاعـد، ولا تُقبـر تحـت ترابِ “التمكيـن”.

همسَ بعضهم في أذان كبارهم أنّ السّفير “قاقارين” هو “الرمح الملتهب” الذي عرفته ساحات الرياضة ومنافساتها، لاعـبـاً فـذّاً في كرة القدم في بلده السّودان كما في إقليمه الأفريقي والعربي. همسوا بأنَّ تلتفت وزارته إلى خبراته الأكاديمية والدبلوماسية المهنية فتستبقيه ليكون “رمحاً” من رماحها الدبلوماسية. وافـق الرئيسُ وأبَتْ الوزارة، ولـلهِ في بعضِ خلـقـه ووزاراته شـئون..! لعلّ أهـلي “الهلالاب” لو بلغتهم القصّة في حينها لقامت انتفاضة شعبية احتجاجا. .

(6)

كان ذلك ديدن وزارة خارجيتنا تلـك في أيام دبلوماسيتها الرسالية. أما السفير جمال فكفاه عامان سفيراً في لبنان ليذهب إلى المعاش، فلم ترَ وزارته كَسْـبَهُ في الثقافة وفي الدبلوماسية، ولا خبراته التي قدّرها أهل لبنان، فمنحه رئيسها وهو يودّعهُ وسام الأرز الأكبر إستثناءاً. حين ودعت”السنيورة” ، وهو رجل محبٌ للمتنبي فتذكرنا قوله:

ملومُكُما يجلُّ عنِ الملامِ ووقعُ فعالهِ فوقَ الكلامِ

ذَراني والفلاة بلا دليلٍ ووجهي والهجيرَ بِلا لِثامِ

فإنّي أستريحُ بذي وَهذا وأتعبُ بالإناخةِ والمُقامِ

أما وزارتنا التي تبقي بعض سفراء ودبلوماسيي “تمكيـنها” لسنوات وعقود ، قلا تتذكّر لوائحها المغيّبة إلا حين رأتني ورأت صديقي الحبيب ما أن كدنا أن نبلغ سن القانونبة فتحيلنا بعجلة إلى التقاعد.

هكذا تقاسمنا تلك الحسرات أنا وأنت يا صديقي الحبيب. .

نَمْ هانئاً أيّها الحبيب فأهل وطنـك ووطني وإن ضنّوا علـينا كرامُ . إنّ الصبر على المكاره- وقد تجرّعناها معاً، لـك فيه أجـر، ولوطنـك إن أضأتَ شـمعة لتبعـد عنه ظلام الأشرار، فقد كسبتَ رضا من عرفـوك بعد الـله. أجل فقـد قرأتُ نعي مَن عـرفـوا أفضالـك ، مثلـما قـرأت نعـي ” لفـيفـا” في رحيلـك المرّ فـدمعـتْ عَـيـناي . . نسأل الله أن يمنّ بنعمة الصبر على الأسرة المكلومة وأصدقاء ورفاق الصبا والكهولة في الهلال وفي الدبلوماسية . .وأن يمنّ عليك برحمته ومغفرته.

القاهرة، 15 فبراير 2025

 

[email protected]

 

 


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *