عثمان ميرغني
ليس حكيمًا الحديث عن “إعادة إعمار” بعد الحرب، بل الأجدر هو الحديث عن “بناء دولة السودان الحديثة”. فالبناء يعني وضع أسس ومفاهيم لا تعتد بالمسلمات القديمة، أشبه بمن يملك بيتًا متواضعًا في حي راقٍ تطورت من حوله العمارات الشاهقة. فالأفضل أن يبني مكانه برجًا عالياً على أحدث ما هو متوفر من تقنيات وهندسة معمارية.
السودان لم تكن به بنية تحتية تتناسب مع ماضيه فضلاً عن مواكبته للعصر. أقل ما يمكن أن أضرب به مثالاً هو شبكة الصرف الصحي، فلا أحد يصدق أن الخرطوم، العاصمة بمدنها الثلاث، ليس بها شبكة صرف صحي حتى في أرقى الأحياء التي يفوق سعر قطعة الأرض فيها كبريات المدن العالمية. فيضطر مالك المنزل إلى خرق الأرض وحفر بئر متخلف لحقن المخلفات البشرية في المياه الجوفية تحت الأرض. وضع يتناقض مع نشأة كثير من الأحياء التي تأسست في عهد الجنرال عبود (1958-1964) ومع ذلك حظيت بشبكة صرف صحي، مثل حي العمارات بالخرطوم.
والذي يزور المنطقة الصناعية في الخرطوم أو بحري أو أم درمان، خاصة في فصل الخريف بعد هطول الأمطار، يرى بأم عينيه المعنى الحقيقي للتخلف العمراني. حيث تنسد الشوارع الرئيسة والجانبية بالمياه الآسنة، ويصعب الدخول أو الحركة فيها، وتتحول المصانع والشركات إلى جزر معزولة في مدينة البندقية.
والخلل في النظام العمراني في السودان ليس مجرد إمكانيات وعثرات اقتصادية فرضت واقعًا مأزومًا عبر الزمان، بل هو عطب حقيقي في منهج التفكير وخمول في الابتكار للخروج عن المألوف. وفوق ذلك، هناك فساد حقيقي في إدارة الشأن المتعلق بالأراضي والتخطيط العمراني.
سبق لي أن اقترحت استنباط جهاز مركزي اتحادي معني بالتخطيط العمراني على أعلى مستوى، يتصل بالمدن على مختلف درجاتها وما يرتبط بها من منظمات سكانية على مستوى القرى والمجمعات وغيرها. واقترحت أن يُطلق عليها (المفوضية القومية للتنمية العمرانية)؛ تتولى التخطيط الاستراتيجي دون التدخل في التخطيط التنفيذي أو أية نشاطات تتصل به. فواحدة من أكثر أبواب الفساد والإفساد في التفكير والمسلك هي منح سلطات التخطيط للجهة نفسها المسؤولة عن التنفيذ. عقلية التخطيط تختلف عن عقلية التنفيذ، وتشريعات التخطيط وسلطاته يجب أن تبتعد عن الجهاز التنفيذي من القمة إلى القاعدة.
وبكون المفوضية قومية، يمتد تفويضها لكامل السودان حتى تستطيع أن تنظر وتصمم الخطط على مستوى متكامل ومتسق في مختلف ولايات وأقاليم السودان.
كثيرة هي الأسس والمفاهيم التي تعمل عليها هذه المفوضية، ولكن من الأفضل أن يُحسم الجدل حول هياكل الحكم الإداري وعلاقة المركز بالولايات والأقاليم، وعلاقة المجتمعات الحضرية من أعلى إلى أدنى تكوينات سكنية وسكانية.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.