عندما كانت جمرات حرب السودان، في مارس 2023، تومض تحت قشّ العملية السياسية الهشّة، عُقِدت ورشة الترتيبات الأمنية والعسكرية لمناقشة قضية إصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية.
كانت الورشة آخر قشّة قصمت ظهر تحالف الجيش وقوات الدعم السريع، وأصبح باب الخروج عبر الاتفاق الإطاري لا يتّسع إلا لجسم مسلّح واحد هو الجيش السوداني، الذي عليه أن يخرج من الباب ذاته، من دون سلطة سياسية أو مالية.
رُحِّلت قضية مدة دمج “الدعم السريع” في الجيش في وقت سابق بعد اختلاف الطرفَين. اقترح الجيش أن تُدمَج “الدعم السريع” خلال ستة شهور، بينما اقترحت “الدعم السريع” أن يبدأ الدمج فوراً، ويستمرّ في مراحل تنتهي بعد عشر سنوات. اعتبر الوسطاء كلا المقترحَين تعجيزياً، وغير واقعي. وبحسب سفراء أجانب شاركوا في تيسير النقاشات، فإن فترة 36 شهراً (ثلاث سنوات) كافية للدمج، إذا توفّرت الإرادة السياسية، وتوفّر التمويل اللازم.
في الورشة، لام متحدّثو الجيش والشرطة والمخابرات الآخرين، وأشادوا بالمؤسّسات التي ينتمون إليها، حتى أن بعض المتحدّثين أصرّ على أن مؤسّسته لا ينقصها إلا زيادة التمويل، أمّا مراجعة الأداء وتحسينه، والهيكلة، ورفع الكفاءة، وخروجها من العمل السياسي والاقتصادي لتؤدّي أدوارها الأمنية، فكلّها لم تكن أموراً تشغل بال المتحدّثين. على العكس، قدم المتحدّث باسم “الدعم السريع” ورقةً مكتوبةً ليقرأها العالم الغربي. بشكل منظّم، يفهمه السفراء وتتكلّم به المؤسّسات الدولية، تحدثت قوات الدعم السريع عن المشاكل التي “تعانيها”، وعن حاجتها إلى المساعدة لتأهيل ودمج جنودها، ولتعليمهم المزيد حول “حقوق الإنسان”.
لكن الدنيا ليست بالأحاديث، ولا بالتوقيعات، فبعد اندلاع الحرب (15 إبريل 2023)، وقّعّت “الدعم السريع” مع الجيش، في مايو من العام نفسه، اتفاق جدّة لحماية المدنيين.
ومثل خصمها، لم تنفّذ “الدعم السريع” أيّ بند من بنود الاتفاق. ومثل خصمها اكتفت بإلقاء اللوم على الطرف الآخر في عدم تنفيذه. ثمّ وقعت “الدعم السريع”، مع تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية، إعلان مبادئ في أديس أبابا (2 يناير 2024)، نُفِّذ منه إطلاق سراح أسرى اختطفتهم المليشيا، عبر الصليب الأحمر، واعتبرت “الدعم السريع” رفض الجيش الجلوس معها في تفاوض مباشر مُحلِّلاً لها من التزاماتها، وكان الجيش قد رفض حتى توقيع إعلان المبادئ المُقدَّم من القوى السياسية، وأي تفاوض مباشر مع “الدعم السريع”، لكنّه عاد للتفاوض السرّي في المنامة بحضور إقليمي، ووقّع معها اتفاقاً يتجاوز إعلانَي المبادئ وحماية المدنيين، ليناقش تأسيس دولة ما بعد الحرب وشكل الحكم فيها، وهو الاتفاق الذي تجاهله الجيش، وتعامل معه كأنّه لم يكن.
هكذا تظهر “الدعم السريع” متحدثةً جيّداً، تلبّي طلبات الحوار كلّها، وتوقّع الالتزامات كلّها، لكنّها لا تعني شيئاً ممّا تقول، ولا تلتزم بشيء ممّا توقّع. المذابح التي تواصل “الدعم السريع” ارتكابها في قرى ولاية الجزيرة في وسط السودان، أو التي ارتكبتها في مدينة الجنينة وغيرها في غرب البلاد، وجرائم النهب والتهجير والاعتداءات الجنسية… هذه كلّها أعلى صوتاً من أوراق الورَش، واتفاقيات العواصم المستضيفة. لذلك، تتبّعت العقوبات الدولية قادة “الدعم السريع”، مثل ضابط القوات المسلّحة المنتدب لـ”الدعم السريع”، اللواء عثمان عمليات، صعوداً إلى قمّة أسرة آل دقلو: عبد الرحيم (المسؤول عن قيادة المليشيا)، والقوني (المسؤول عن أموال واستثمارات الأسرة)، شقيقي قائد “الدعم السريع”. قبل أن تصل العقوبات إلى محمد حمدان دقلوا (حميدتي)، يوم الثلاثاء الماضي (السابع من يناير/ كانون الثاني 2025). بهذه العقوبات تصبح أسرة دقلو وجميع قيادة “الدعم السريع” تقريباً خاضعة للعقوبات الدولية، وهي عقوبات رحبّ بها الجيش السوداني، رغم تكرار رفضه عقوباتٍ مماثلةً فُرِضت على عدد من قادته، ووصلت لقيادات عسكرية عُليا ومهمّة. كانت “الدعم السريع” تحتفي بهذه العقوبات، لكنّها اليوم تراها مهدّدة للسلام.
خاض حميدتي رحلةً طويلةً منذ 2003 ليصل إلى منصب نائب رئيس المجلس العسكري الحاكم في 2019، ثمّ نائباً لرئيس مجلس السيادة (2019 – 2021)، ثمّ نائباً للبرهان عقب انقلابهما في أكتوبر 2021، حتى أقاله بعد الحرب في 2023. عشرون عاماً من الدم والجرائم، في دارفور وغيرها. قد لا تكون العقوبات الأميركية على الرجل كافيةً، لكنّها تهزم الصورة التي يقدّمها لنفسه “رجل السلام” في السودان، وهناك ضحيّة مدفونة في قبر جماعي، في مكان ما من دارفور منذ سنوات، تبتسم أخيراً وتقول: “لعلّها تكون البداية”.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.