د. النور حمد
ليس مجافيًا للحقيقة إن نحن قلنا: إن تاريخ البشر على وجه الأرض لا يمثل، في جملته، مجرَّد تاريخٍ للشر.
وما بارقات الخير التي ومضت هنا وهناك، في كامل هذه المسيرة الطويلة، سوى ومضاتٍ قصيرات. وهناك حقيقةٌ أخرى متَّفقٌ على صحتها، وهي: أن التاريخ يكتبه الأقوياء. والأقوياء، عبر التاريخ، ليسوا من بيدهم المعرفة والحكمة، أو من توجههم نوازع الخير. وإنما هم الذين يمسكون بمفاصل السلطة والثروة بقوة الحديد والنار.
لكن، ظل هؤلاء الأقوياء يعرفون أن المستضعفين سوف يثورون. فالرِّق الصراح، ورق الإقطاع، وما يصحبهما من قهر وإذلال لكرامة الناس، يُجبِر الناس، على الدوام، إلى القيام بالانتفاضات والثورات. لذلك، اعتمد الأقوياء، إلى جانب القوة الغاشمة، على الخطاب المُخذِّل للثورات. ولم يكن هناك خطابٌ لخدمة قمع الثورات مسبقًا، أقوى من الخطاب الديني.
جرى في تاريخ الغرب المسيحي، عبر التحالف الطويل بين الأباطرة والملوك والإقطاعيين، ورجال الدين، استخدام الخطاب الديني لتخذيل الناس عن الثورات. وقد كانت حجة التخذيل الأساسية، أن الثورات اعتراضٌ على المشيئة الإلهية، لأن الله قد خصَّ قبيلاً معينًا من الناس بالحكم وبالثروة وبرفاه العيش.
ومن هنا جاءت فرية الدم النبيل وحق الملوك المقدس في الحكم. أما الفقراء والمعذبون في الدنيا، فإنهم سيجدون الغنى والسعادة في الآخرة. ولقد خدم هذا الخطاب غرضه إلى حين قيام الاعتراضات المعرفية والعملية، التي انتهت بحدوث الثورة الفرنسية، حين بدأت الجمهوريات تحل محل الأنظمة الملكية، وبدأ الدور السياسي للكنيسة والإقطاع في التراجع.
أما في التاريخ الإسلامي فقد كانت ما سُمِّيت “ثورة الزَّنْج” أخطر ما هدَّد عرش العباسيين. جرت تلك الثورة في الفترة ما بين عامي 869 و883م. أي، حوالي منتصف القرن الثالث الهجري. وقد بلغت تلك الثورة حدَّ تأسيس نظام حكمٍ منفصلٍ في مدينة تسمى المختارة، جنوب البصرة. قام بهذه الثورة الزنوج المسترقُّون، الذين جِيء بهم من أفريقيا ومعهم أرقَّاء آخرون، جِيء بهم من مختلف أرجاء الإمبراطورية الإسلامية. وقد هلك في تلك الثورة العنيفة عشرات الآلاف. فجنَّد العباسيون كل طاقاتهم للقضاء عليها، ولم يفلحوا في ذلك، إلا بعد 14 عامًا.
تحت ظل مثل تلك التهديدات التي تنطلق من الطبقات الدنيا في المجتمع، نشأ لدى الحكام في الإمبراطوريات الإسلاميات الميل إلى استخدام رجال الدين لكي يخذلوا الثورات بالخطاب الديني. وكان ذلك على ذات النسق الذي جرى في أوروبا، منذ انتشار المسيحية فيها، وإلى قيام الثورة الفرنسية.
في هذا السياق، نشأت في التاريخ الإسلامي، منذ القرون الأولى، طبقة الفقهاء الملتصقة بالحكام، التي تدعو إلى طاعتهم، بحجة أن ذلك أمرٌ إلهيٌّ ونبوي. وقد استخدم هؤلاء الفقهاء سلاح التكفير والزندقة لقمع المدركين، وأصحاب الضمائر الحية، والحس الأخلاقي الرفيع والتخلص منهم بالقتل، بعد تأليب العامة ضدهم.
بهذا الأسلوب، جرى قتل الجعد بن درهم، وجرى قتل الحلاج، والسهروردي، وكثيرين غيرهم. إلى أن انتهى الأمر، وللغرابة الشديدة، في القرن العشرين، بقتل الأستاذ محمود محمد طه.
على مدى 30 عامًا ضلَّلت الكليبتوقراطية المتلفعة بثوب الدين، باستخدامها الخطاب الديني المخاتل، قطاعًا عريضًا من الشعب السوداني. لكنْ، انفضح هذا الأسلوب بعد أن أزهقت الأرواح بمئات الآلاف، وعوَّقت نمو البلاد، وعزلتها عن حراك العصر، وأهدرت أموالًا ضخمةً، وأضاعت وقتًا ثمينًا. لكنَّ هذه الكليبتوقراطية المجرمة ما لبثت، بعد كل هذا الهدر اللامسؤول، أن وقفت عاريةً أمام الشعب، بحقيقتها الأصيلة، كفئةٍ ضالَّةٍ مُضلِّةٍ، كاذبةٍ، مخاتلةٍ، مخادعةٍ، بلا ضمير، وبلا اكتراث للدم البشري، وبلا شروى نقيرٍ من الوازع الديني والأخلاقي.
من أجل إزالة الاستبداد والفساد الذي زكم أنوف القاصين والدانين، اشتعلت ثورة ديسمبر المجيدة، التي خلبت ألباب العالم، لكنها، كانت ثورةً ناقصةً. فتعثرت، مثلما تعثرت غيرُها من الثورات، في متسلسلة ثورات الربيع العربي. وأيضًا، فيما سبق ثورات الربيع العربي، في مختلف أرجاء الكوكب. وعمومًا، فإن الثورة السلمية مكتملة الأركان لم تحدث بعد، في أي مكانٍ في العالم. وهي، في تقديري، لن تحدث في وقتٍ قريب، لأن الوعي البشري لا زال متخلفًا جدًّا، في كل أرجاء الكوكب. بل إن كثيرًا من الناس لا يزالون قابلين لكي يُساقوا كقطيعٍ، إلى الحد الذي يقفون فيه بأنفسهم ضد مصالحهم. ولو كان الوعي البشري مستحصدًا بحق، لما عاش النظام الرأسمالي إلى يومنا هذا، رغم أن جهود فضح لا إنسانيته قد تكاملت منذ القرن التاسع عشر.
فالنظام الرأسمالي تتويجٌ لكل علل الفكر الغربي العلموي المادي، ولنمط التدين الأوكسيدنتالي الزائف. عمل هذان الطرفان الذين يظن كثيرون أنهما متناقضين، على إضعاف الوعي بالحقوق وإطفاء شعلة الثورة بالتضليل الديني وبإغراق الجماهير في التفاهات، وفي اللهو، عن طريق أدوات الإعلام، بغرض حصد الأرباح. وهذا مما تعلمته منهم الكليبتوقراطية السودانية المتلفعة بثوب الدين، ومارسته في السودان بكثافة في عشريتها الأخيرة، حتى تقزز منه كل صاحب وجدانٍ سليم.
بعد أن اضمحلت فعالية الخطاب الديني التضليلي، وضَعُف تأثيره، ولم يعد قادرًا على تصفية الثورة، أشعلت الكليبتوقراطية المتلفعة بثوب الإسلام حرب 15 أبريل 2023. في هذا المنعطف، هجرت هذه الكليبتوقراطية المخاتلة الخطاب الديني التضليلي، واتجهت لتسمية حربها، لاستعادة الاستبداد واحتكار السلطة والثروة، “حرب الكرامة”. وبسبب التعقيد الذي شاب المشهد، وبسبب خلط الأوراق المقصود، الذي تسببت فيه الحرب، نسي كثيرون الثورة وضمُرت تطلعاتهم وتقزَّمت. فقد خلطت الحرب الأوراق بخلقها واقعًا جديدًا، انحصر فيه هموم غالبية الناس في مجرد الحصول على سلامة البدن والمسكن والممتلكات.
وهكذا، تحت هذا الضغط المادي والنفسي الهائل، انجر كثيرون إلى الاصطفاف وراء الجيش، متناسين أنه هو السبب الرئيس في مأساة بالغة الضخامة، ظلت تعيشها البلاد منذ ثلاثين عامًا. كل ما في الأمر، أن هذه المأساة والمقاساة المتطاولة وصلت، ولأول مرةٍ منذ الاستقلال، إلى العاصمة وإلى ولاية الجزيرة. فسكان الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق قد ظلوا يعيشون هذا المأساة المروعة منذ عقودٍ خلت، ولا يزالون.
نجحت الكلبيتوقراطية الفاسدة المفسدة، المتلفعة بثوب الدين في تحقيق انتصار زائفٍ مؤقتٍ على العلماء والحكماء وسليمي الوجدان، مستخدمةً في ذلك قابلية العامة للتضليل، لكنه نصرٌ مؤقت.
فسوف يزداد الوعي وترجح كفة المدركين من أهل الضمائر الحية، الواقفين إلى جنب الله، وقوى تأثيرهم. فالمسالة مسألةُ وقتٍ، لأكثر. دعونا ننظر إلى الهزائم العسكرية المتتالية، والخزي الذي مُني بها مشعلو هذه الحرب.
وانظروا، إلى التنازع الذي طفا على السطح وسط طغمتهم الفاسدة في بورتسودان. في كل ذلك دلالةٌ على أن الكليبتوقراطية الأمنوقراطية المتلفعة بثوب الدين، قد استنفدت كل طاقاتها، وفقدت آخر أسلحتها، وهو الحرب. و
سوف لن تلبث أن تنهار، فيأمن العباد والبلاد من شرها المستطير، مرَّةً وإلى الأبد.
* نقلا عن أفق جديد
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.