فضيلي جمّاع
يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (الحرب يشعلها الأغنياء، ويموت فيها الفقراء)!
اقرأ تاريخ الحروب في ماضي البشرية وحاضرها جيداً، وسترى أنّ خلف كل حرب مدمرة يقبع عاملان: السلطة والمال! ثم أعد النظر في تاريخ الحروب جيداً، تجد أن مشعلي الحرب هم آخر من يكتوي بنارها! الذين تحصدهم الحروب هم الجنود المشاة- أبناء الطبقة الفقيرة. وهم الرجال والنساء والأطفال ممن يغنون لروعة وجمال الطبيعة عند شروق الشمس وطلوعها. لا ينتظر أحد من هؤلاء شارة عسكرية تزين كتفه أو وساماً يلمع فوق صدره. مشعلو الحروب هم الذين لا يهمهم موت أحد ما دامت أرصدتهم في المصارف في ارتفاع، والحلم بالسلطة تتسع دوائره الحلزونية البراقة كل يوم تتسع فيه دائرة الحرب.!
قادني إلى هذه التقدمة التداعيات التي أفرزتها زيارة الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء السابق لحكومة ثورة ديسمبر – رئيس تنسيقية القوى الديموقراطية المدنية (تقدم) والوفد المرافق له من قادة تقدم هذه الأيام لبريطانيا.
فما إن ذاع خبر زيارة حمدوك للعاصمة البريطانية لندن بدعوة رسمية من الحكومة البريطانية، حتى جن جنون أنصار الحرب من الإسلامويين والبلابسة. ولأنّ أكبر أسلحتهم هي إطلاق الفقاعات والشائعات، ونشر التلفيق والكذب الصراح عبر الميديا، قد أطلقوا شائعة بأن الشرطة البريطانية ألقت القبض على الدكتور عبد الله حمدوك للتحري معه حول جريمة إشعال الحرب! هم يعلمون أنها كذبة يأتيك ريحها النتن من على بعد أمتار! لكن ليس هذا عندهم بذي أهمية. إنما المهم أن يحدث الخبر إرباكاً لعدوهم. فينصرف السودانيون من جوهر الخبر وهو: تقديم الحكومة البريطانية الدعوة رسمياً لرئيس وزراء سابق – تعيش بلده حرباً مدمرة – تقديم الدعوة إليه ليتحدث في منتدى سنوي خاص بالشؤون الأفريقية تنظمه واحدة من كبريات المؤسسات الصحفية في الغرب – صحيفة (فاينانشيال تايمز)! وليلتقي قادة العمل السياسي في بريطانيا. بل يوجه له (المعهد الملكي للشؤون الدولية) المعروف بChatham House) والمختص برسم السياسة الخارجية البريطانية، أن يوجه له الدعوة ليقدم محاضرة استمرت ساعة وربع الساعة، أمس الخميس 31 أكتوبر 2024. تطرق فيها الدكتور عبد الله حمدوك بإنجليزية مترفة إلى (أولويات المدنيين من أجل وقف الحرب في السودان). محاضرة ستتناولها بدون شك دوائر صنع القرار في عواصم العالم. وسيعقبها ما يعقبها من تغيير دول ذات وزن لمواقفها تجاه هذه الحرب القذرة في بلادنا.
سبق هذه المحاضرة تلبية حمدوك والمهندس خالد عمر والأستاذ أحمد تقد – من قيادة تقدم – سبقها دعوة تنسيقية تقدم (مركز بريطانيا) لحوار مع عضويتها وممثلين لمنظمات مدنية وأحزاب ومنظمات حقوقية سودانية غير منضوية تحت لواء تقدم، لكنها مؤمنة بوقف الحرب البشعة الدائرة حالياً في بلادنا.
كنت حضورا بين قرابة الثلاثمائة مدعو من السودانيين ممن اكتظت بهم واحدة من كبريات الصالات في فندق شيرشل بلندن. وبسبب الشغب الذي أحدثه دعاة الحرب من السودانيين أمام الفندق بحجة أنهم لن يسمحوا للمتحدثين وخاصة الدكتور حمدوك بدخول الفندق للقاء السودانيين – وبسبب صراخهم الهستيري والألفاظ النابية التي كانوا يطلقونها والسباب المقذع رأت الشرطة البريطانية تأجيل دخول الدكتور حمدوك لأسباب أمنية إلى حين.
وبسبب هذه الهستيريا تأخرت الندوة عن موعدها لأكثر من ساعة. بعدها دخل الدكتور حمدوك القاعة وسط الهتافات الداوية والزغاريد وتسجيلات الأناشيد الوطنية، ومنها (يا شعباً لهبك ثوريتك) كلمات شاعر الشعب محجوب شريف وغناء فنان أفريقيا محمد وردي.
في تلك اللحظات يمكن لأي عاقل أن يتساءل: هل نجح الأخوان المسلمون عبر أكثر من ثلاثين سنة في زراعة فكرهم المسخ، المشبع بثقافة الكراهية وإسالة دماء الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال- في زراعتهم إياه في أدمغة بعض أبناء وبنات شعبنا إلى حد الغيبوبة والهوس؟ الأغرب أن معسكر الداعمين للحرب – وقد جاء بعضهم مرتديا البذلة العسكرية- وهم في صراخهم ووعيدهم وألفاظهم النابية، نسيئ الكثرة منهم أنهم عاشوا أصعب الظروف والتهديد بالسجون والموت ذات يوم على يد زبانية نظام التعذيب التابع للإخوان المسلمين قبل أن يحلوا بهذه البلاد التي نعموا فيها بحرية أن ينفخوا أوداجهم دون خجل دعماً لأحد أكثر الأنظمة بطشاً بكرامة الإنسان! حقاً.. الإستحوا ماتوا.
عودة إلى قاعة الندوة.. لم أر حشداً في سنواتي ببريطانيا اكتظت به أحد كبريات الصالات، وقد جمعهم حب الوطن والعمل على وقف الحرب المدمرة له كما رأيت في تلك الليلة.
تحدث الدكتور حمدوك لمدة قصيرة، ثم توقف بحجة أنهم إنما جاءوا ليستمعوا للحضور والرد على استفساراتهم. كان إعطاء الفرص للمتحدثين والمتحدثات جيداً، رغم كثرة العدد وضيق الوقت. شارك في الحديث المهندس خالد عمر والأستاذ أحمد تقد، وكان حديث كل منهما مقنعا، وقوبلت مداخلاتهما بالتصفيق.
ندوة الأربعاء 30 أكتوبر أعطت كل من حضرها انطباعا بأن ما يوحد شعبنا أكثر مما يفرق بين أطيافه. وأننا الآن في معسكرين: معسكر دعاة الحرب – دون مبالين لما جلبته الحروب لبلادنا من خراب على مدى ثماني وستين سنة.. أنصار (بل بس)!! ومعسكر دعاة وقف الحرب لإنقاذ بلادنا التي هي اليوم أقرب لشفير الهاوية.. أن تكون أو لا تكون!
حتماً ستقف الحرب. وستعلو راية معسكر السلام. فالذين يقودون معسكر الحرب لا يملكون سوى زعيق الحلاقيم والانتصارات على صفحات واتساب وفيس بوك!
ولعلي وأنا أختم مقالي عن زيارة قادة تنسيقية القوى الديموقراطية المدنية (تقدم) بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك للندن أستأذن الصحفية النابهة صباح محمد الحسن وأسرة صحيفة “الجريدة” الغراء باستعارة مقتطف من مقدمة مقالها الضافي (الجريدة هذا الصباح) إذ قالت في وجه المقارنة غير الممكنة بين رئيس وزراء حكومة الثورة الدكتور عبد الله حمدوك وبين العسكر الذين أطاحوا بحكومته ليجدوا أنفسهم في متاهة الحرب.. كتبت صباح محمد الحسن تقول: (الرجل الذي نزعت منه السلطة بالسلاح، الآن ينزع من الحكومة المكانة والشرعية، دون أن يحتاج إلى (إراقة) نقطة دم واحدة. وهذا هو السبب في حالة الهستيريا والجنون كآثار جانبية طبيعية تصيب الفلول بعد كل خطوة يتقدم بها حمدوك.)
لا شيء عندي لأضيف لما قالته صباح سوى أن أردد كلما تناهى إلى سمعي صراخ وهستيريا دعاة الحرب: (دستور يا بلابسة!!)
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.