جمال محمد إبراهيم
أهاجَك ليلى إذ أجَـدّ رَحيلـُهَا نَعَم وَثَـنـَتْ لمّا احزألَّتْ حُمُولـُهَا
كثير عزة
خـليـلي هـذا ربعُ عـزةَ هـذه رسُـومُ مَغانيها وَهَذي طلوْلها
محمد المكي ابرهيم
وَجـَمَتْ حَمَامَتـُنا وَبَحَّ هـَدِيْلـُهَا في ليلةٍ ظـلمَاءِ غَابَ مَثـيْلـُهَا
جمال محمد ابراهيم
(1)
لو سألتني يا قارِئي العزيز مِن أينَ جاءت تلك البكائية التي أنشدتها في رحيل حبيبنا الشـاعر السفير، لن يصدق من يسمعني أنَّ يمامة نبَّهـتـني، وأنَ هـَـديلها في بحّـتـِهِ الحزيـنـة، نقـل إلـيّ رسـالة كمثـل ما نقـل الهُـدهُـدُ للنبيّ سـليمان من رسـائل. غير أني لـسـْـتُ بنبيًّ ولا مُتـنـبي. أجل. . ولا اسـتـملكَني مَـن يملـك أمر الدنـيــا، سُــلطاناً على هُـدهُـدٍ يأتيني ليهمسَ في أذني أنّ مَـن أودّه وتودّونه راحـلٌ عـنكم ، بعـيـداً عن دنـيـاكم . .
كلا . . لـربَّما لـيـسَ في ذلـك مـا يُمنطـقـه قـلـمي هـنـا، أو يحكيه فتصـبح حكايتي نادرة من النـوادر، أو ضغـثاً ممّـا يَجـول في خاطِـر شــاعر حَـالم.
(2)
كنتُ مقـيماً في “الفيصل”، وتلك منطقة تضمّ عدداً من أحيـاءِ القاهرة الشعبية والنيل خلفـك فتـشـقّ طريقاً متسعَ الأطرافِ يمتـدّ لعدّة أميال. و”شارع الملك فيصل” يأخذك غربا إلى أهرامات الفراعنة والتاريخ القــديم الجالـس القـرفصـاء، ليسَ بعيـداً عن نظرك ولا عن شواطيءِ نهر النيل القدسي العظيم. على جانبي ذلك الشارع الطويل، تخيّرتْ حشود من السودانيين النازحين مساكن لهم في أحيـاءٍ تمـدَّدتْ بطـولِ ذلـك الـشارع.
غيّرتُ سَـكني من آخر “شارع الملـك الـفيصل” إلى أوّلـه شرقاً ، وانتـقـلتُ إلى شــقـةٍ على قـدر الحال، تأويني وأسـرتي الصغيرة . لـفـتَ انتـباهي في سكني الجــديد ، قُـمرية تنـوح بهديلها قـرب نافـذة غرفتي، متخـذة لها عُـشـاً على ظهــر صـندوق مكيّـف الغــرفة الـمُعلّـق على جــدارها الخارجـي. لم انشغل كثيراً بذلـك الطائر الغـرِد، لكنّه ظلَّ يشـجيني بهـديله كلّ صباح.
مَـرَّتْ بنا أيـّامٌ ملـوّنة بعـنـاءِ النزوح، وببـطءِ سـاعات الانتظــار، والحـرب في السّــودان تدور ولا نرى لـنهـاياتها أفـقـاً مأمـولا. عـنـدما أنـبـأني صديـقي الـشـاعر الشّـفـيف الحــرف عبدالـقـادر الكـتيابـي، أنّ حـبـيـبـنا الشـاعر والأديب المُـفـكِّـر والدّبلوماسـي القدير قــد حَـلّ بالقاهـرة ، قادماً من الولايات المتحدة هو وأسرته ، أسعدني النبأ أيّمـا سـعادة. قلنا إنَّ الأنـسَ جاء والصُّحبة الـنـدية جاءتْ، وقـمـرُ الشعـر جاء مضيئاً إلـيـنـا.
(3)
في احـتـفـائه بالمكّي، دعانا إلى صالونه الرّحب في القاهرة، حبيبنا السفير على يوسف الشريف ، ونحن ثلـة من مُحبِّي المكيّ وأصدقائه، ضـيوفاً عـلـى الشريف في داره بـ”شارع عـبّاس العـقاد” بمدينـة نصـر. كان المكّيُّ بوداعـة حضوره وبديع اطـلالته نوّارة الجلـسة، وَعبيرُ كلامـه يتوزّع فـوحاً في ذلـك الصالون.
جلـسـتُ إلى مُعلّمي وصديقي وشـاعري محمـد المكّي ابراهـيم، واسـتغرقنا معاً في حــديث هامِـس ، فأسـرّ ليّ أنه يفكّـر في جمع أشعاره قديمها وجديدها، لتكون في كتاب واحـد، وأنه يثـق في تجـربتي في نشـر بعـض أعمالي وكتاباتي . بادرتُ إلى القول أن أشـعاره تعرفـها السّـاحات سودانيـا وعربيـا .
لكنه أطرق مبتسماً ، وهمس ثانيـة :
– الجيل الماثل لا يكاد يتذكّر بذلـنا في ساحات الأدب والشعر في محبّة الوطن. لقد نسـينا الناس. .!
لم أصدّق قوله، وبادرتُ مدافعاً :
– أنت في قلب ذلك الجيل الماثل ومساهماتك الباذخة برزت في السّـودان، بل وفي العالم العربي. .
إتسعتْ ابتسامته، وقال لي مصحّحا:
– سنواتي طالت خارج الوطن، وأنّ البقاء الطـويل في الـولايات المتحـدة وللأسباب المعروفـة، أبعــدنا عـن دفء الاقتراب من الأصدقاء والأحبـاب، والعـمـر يمضـي وينبغي أن نكون قريبين من أرض الوطن وترابه . .
عن مقترحه تجميع أشــعاره جميعها في مجموعة كاملة، حدثـته عـن الدكتور محـمد صادق صاحب دار “باركـود للنشـر” السـودانية، وهو ناشـرهميمٌ وصديقٌ نعرفـه ســويا . وكنـتُ ســابقا قـد فاتحتُ صديقنا صاحب “باركود” عن إمكـانية إخـراج أشــعـار المكِّي كاملة عنده، فتحمّس موافـقـاً برحابة صـدر.
(4)
مع انشغالات تجارب الإقـامة النازحـة، جَـرتْ الأيّـام سِــرَاعا، وأنا أرتـّب إكـمـال مستلزمات انتقالي إلى الشـقة التي استأجرتها في منطـقـة “طالـبـية”، والتي لا تبعدنا عن “ولاية الفيصل”، تلك التي سـمّاها إخوتنا القاهـريون تنـدّراً، لاحتشادها بالسودانيين النازحين جرّاء الحرب. ظلـلتُ أعـدّ لزيارة الحبيب العزيـز، ولـمـرَّات عديدة يتواصل معي صـديقي الأثير الأستاذ الجليل عبدالمجيد خليفة، وهـو من أشــدّ المعجبـين بحـبيبنا محمد المكِّـي ابراهيم، للتنسيق لجلسـة مع المكِّي حيث يقــيم في مدينة السّـادس مِن أكتوبرمع أسرته هنـاك، فإذا بالتنسيق يسقط في جـُبِّ انشــغالات النّـزوح.
في يوم حزين علمتُ بغـيـبـوبة المكِّي الـتي لم يـَفـق منـهـا . .
(5)
في الإبّان لحق بـهاتـفي عطبٌ لأكثـر من أسبوعين، حجبني عن التواصل مع أصدقائي . تأخّر وصـول مصـري قادم من السـعودية يحمل إليّ جهـازهــاتـفٍ من العاصـمـة الرياض من ابنتنا المقـيمة هناك، فكأنه تأخّر لقدرٍ محسوب ينتظـرنا في منعطـفٍ لم يخطـر، لا ببالي ولا ببال حامل الموبايل، ولا ببال ابنـتي . في لحـظــة تســلـمي هاتفي الجـديد وقبل فـتح مغاليقه، رنّ هاتفي بمكالـمةٍ من صــديقٍ عـزيـز في أمسـية يوم الأحـد التاسـع والعشـرين من سـبتمبر، هـو الأسـتاذ صلاح البـاشــا. قال لي بصوت جـلـلـه أسـىً وَحـزن :
– أعـزّيكَ في رحيل الشـاعـر العظـيـم. .
اضطربتُ وذهلتُ ثُـمَّ تلعـثـم لســاني قبل تردّدي ، وكـأنّي أقـاوم رغبتي في أنْ لا أسمع منه ما أراد أن يبـلغني به :
– فـيمـن تعـزّيني أخي صـلاح . . ؟
ثمّ كِـدتُ أن أعـيش بعـيـنٍ دامعـة، ذات الغـيبـوبة التي أخذتْ ذلـك الـيـوم حبيبنا المـكِّي بعـيـدا عـنّـا. .
(6)
لم تهدأ روحي ليـلـتي تلـك، فعـادت بي على الفور ذاكرتي القهقـرى، إلى ســنوات بعـيــدة أرّقني ما نقـلـتْه فضائية لبنانيـة، عن رحيـل شــاعرٍ عـزيزٍ أحببته وأحبّـني في ـ الشـعرعلى أيّامي في بيروت، شاعراً وسـفيرا .
لم أنمْ ليلتي سـاعة بلغني نبأ رحيل محمود درويش. “محمود الدرويش سلاما”. أطلّ عليّ الـفجـر في القاهرة ، وأنا أتقلب بأرقي في حـزني ، وفي خبـر رحيل الحبيب المكِّي.
ثمّ افـتـقـدتُ هـديل قـُمـريَـتي تـلـك التي حَكيتُ عنها أوّل حــديثي هـنـا ، وكانت تجـاور نافـذتي . .
أيُّ إشاراتٍ أنبأتني قبل أن ينـبـؤني صـديقي البـاشا، أنَّ حَبيبنا رحـلَ عـنَّـا أهـو عطــبُ هـاتفي، أم انشغالات نزوحي، أم خفوْتُ هـديل قـُمـريـتـي. .أم هتفـتْ لي جميعـها وهـزَّتْ روحــيّ هـزّا فـأمْـلــتْ عــلـيّـا – مِـن حـيـث لا ولن أدري – قـافـيــة “لامـيّـتي”. . في بحـرِ الطويل الحزين، وقـد لامسـتْ “لامِـيـّة” كُثير عـزَّة. و”لامِـيـّة” أخرى نظمها الراحل وغابت عن ذاكرتي تماما
ثم أعادني الأخ السفير خالد فرح إلى قصيدة نظمها الشاعر الراحــل على أيّـام انفصال جنوب السودان ، بذات البحر وذات القافية . فـنـقـبـتُ في رســائل الرّاحل العزيز ، فاهتديت إلى مقالة خصّني بها حينَ نشرتُ مقالاُ بثثـتُ فـيـه حزناً عن أطلال سينما “كولوزيوم” لمّا تصرّف الإسلامويون ببيعها وكان ذلك في مايو من عام 2018، فتضمنت رسـالته ما نظم جرياً على “لامـية” كُثير عزّة، قصيداً حـدّثني فيه عن طلل السودان كله وليس طلل “كولوزيوم” فحـسب.
ثم كانت ثورة ديسمبر 2018، وما كان الظنّ أنْ قد يعقب اندلاعها ، ما شهدناه وشهده معنا حتى ساعة رحيله ، كيفَ تُصنع الأطلالُ صناعة مُتـقــنـة بأيـدي القـتلة من شـياطين الأرض، فلا يُكتب لأطلال السودان ما يخرجهـا من رميمها إلا بسـواعـد جـنّ النبي سـليمان أو هَـداهِـدِه .
سـألتُ نفسي كيفَ جاءتْ قـمْـريتي تهـدل قرب نافذتي لأسابيع ، ثم يبحَّ هديلها وتختفي عن سمعي وعن نظري، في ذات يومِ رحيل الشـاعر الحبيب، فأسـتهلـل بكائيتي بغـيـاب هَـديلِ قمريتي، فتشيع القصيدة بين أحبــاب الشاعر العظيم، كأنها إمــلاءٌ تنـزّل عليّ من حيـث أدري ولا أدري. .
وَجـَمَــتْ حَـمَـامَـتـُنـا وَبَـحَّ هـَــدِيْــلـُهـَـا فـي لـيــلـةٍ ظـلـمَــاءِ غَــابَ مَـثـيْــلـُهَــا
رحمكَ اللهُ حبيبنا وشـاعرنا العظـيـم . .
القاهرة – 8 أكتوبر 2024
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.