تقديم كتاب «شاي السّت» تأليف عبدالله الشقليني

 السفير جمال محمد ابراهيم
هـذا كِتـابٌ أخرجَـهُ تأليـفـاً وتحـريراً وترتيـباً، صاحِـبــه المُهنــدِس الأديْــبُ عبدُالـلّه مُحمّـد ابراهيم، والـذي آثر اختصار إســمه فنـسـبه مباشـــرة إلى اســمِ جــدّه الشّـقـلـيني الكبـيــر، فـعرفه قـرَاء كتاباته بإسـم عبدالـلّـه الشـقـلـيني.
يحتـــوي الكتابُ على أقاصيص وحكاياتٍ مُختارة من بعضِ ما كتـبَ المهندسُ الأديب، بل شـــاركتُ بقلـمي في انتقـائها بمعـيارِ التماهي مع مدينـــة أم درمـان، كمعـيارٍ رئيسٍ لكتاباتٍ أنجزها كاتبها على مَـدى ســنواتٍ عديدة ، إذ أم درمان هيَ المدينة التي أحبّ واتسـعـتْ تجاربه فيها، وتجلتْ في بعضِ حكاياتٍ وقعـتْ في حواريها وأحيائها. مزجَ الكاتب الخيالَ مع الواقعِ، على مدىً زمنيٍّ ممتـد لسنوات طوال وفي مناطق مثل العباســية وأبوكدوك وبانـت ، وحتى الفتيحــاب، ثم إلى سِـواها من أحياء تلـك المدينــة . كثيــرون يرون تنـوّعَ أم درمان ، وتشاركات أهلها سَراءَهم وضَراءَهم ، وتمازجهم ومصاهراتهم، مثلاً مصغّـراً لتنـوّع السّــودان، الشاسع بمســاحـته والواسع بسكانه، فإنك تلحظ بيسرٍ كيفَ تجاوز الإنتماء للمكان “الأمدرماني”، تلك الإنتماءات الضيقة للقبائل وللطوائف العرقية وللألسنة المتراطنة، بكل فسيفساء ألوانها وأشكالها.

لاشـــكّ أنّ الكثيرين قـد تابعـوا معظمَ كتابات عبدالـلّه الشـقليني منشـورة خلال العقــدين الأخيرين من الألفـية الثالثة، في موقـع صحيفة “سودانايل” الإلكترونيــة، لصاحبهـا ورئيسُ تحريرها الأســتاذ الصّـديـق الصّحفي طـارق الجـزولي.

وَعلى ذكر الجزولي، فلنا أن نشــير لتجـربته الشخصية في الصُّمود خلالهــا بشـجاعةٍ وتصـميم، لحـفـظ اســتقلالية صحيفـته تلـك، ولصونِ رصـانتها. وكنتُ إلى ذلك لصيقاً وقريباً من تلـك التجربة ، وما لاقــى خلالـها مـن عّـنــتٍ وتحرّش من عسسِ إعلام نظـــام الانقــاذ البـــائد، أحاله آخــر أمـره إلى الخــروْج وطلــب اللجـوء إلى مكانٍ آمــنٍ قـاده إلـى الاقامة في اسـكندنافيا، حيــث لحــرية الــرأي والتعبير إحترامٌ سَـامٍ وتقديـْرٌ مُعــزّز. لعلَّ قصّة صديقنا الجزولي تذكّر بقصّة “أسـانج” الذي لاحقته دوائر دولية، ليس إلا بسبب يمتّ لحــرية الصحـافة والرأي بصـلة. ولحماسي لتجربة الجزولي في صحيفته الالكترونية “سودانايل”، فقد سعيتُ لاستقطاب بعضَ أقلام مُبدعي بلادي ، فكان شــقيقي عبدالـله الشقليني، هو بين أوائل من شـجَّعتْ للنشر في صحيفة “سـودانايل” الإلكترونية.

وَلأنّي – وَعـبدالّـلـه أخٌ شــقيقٌ لي- فقد نشــأنا معـاً في مدينة أم درمان في بداية السنوات الوسـيطة للـقـرن العشرين، فإنـكَ مُـلاقٍ لتلـك المديـنـةِ أصـــداءاً لن تغيْـبَ عن نظـرك، مبـثـوثـة في أكثر كتاباتي وكتــابات عبدالـلّـه وحكاياته. وقـد عـمـلَـنا على نشـرها في موقـــع “ســودانايل”، وجـلـّها لم تتعدَ ذلـك الحـيّـز الجغـــرافي- الاجتماعي الجميل: أم درمان، إبّـان نشــأتنا فـيها.

لعلـكَ تعجـبَ أنْ يكتـبَ أخٌ شــقيق يقـدّم لكتاباتٍ ينشـرها شـقـيقـه. غـيـرَ أنَّ أصدق وأكثر مَن عرفَ كاتـبـها، ومَـن كان الأقـرب إلى بواكيـر نشــأته ، والأعـمـق إدراكـاً لتفاصيل ما جـاء من قلمه، لهـو شــقيقهُ كاتب هـذا التقــديـم. ذلـك أنّـا نَهَـلـنـا مَعـاً مِـن مَعـيـْنٍ واحــد، وتســاقينا من نبـع تجـاريب صِـبانا في سَــاحٍ مُـشــتركٍ، لأبٍ واحـد وأمٍّ واحـدة وإخـوة وأخـوات، فتقاسمنا مكانا وزماناً وصحـاباً ورفـقـة. تـرى ذلــك في إهـداء عبداللـه كتابه هـذا بأريحيةٍ ، إلى جُـلّ مَن ذكـرتُ لـك.

إنّـي وإنْ امتهـنـتُ سَـبيلا غير سَـبيل شــقيقي، فأنا دبلوماسيّ وهـو معـمـاريّ مهنـدس، لكن لم تفرّق بينَ تجربتينا تبـاينـات تذكر في أيٍّ مِن مِهنـتـيـنا، بل ظلـلـنا معـاً نسـتظلّ بدفءِ تلـك المدينة التي شـملتنا بحـنـوّها، إذ شـببنا وكبـرنا رجــالاً وكهــولاً في أم درمان، فكان سمرنا- أو قُـلْ ثمـرنا – نتاج بستانٍ واحد. ثمّ اشتركنا معـاً في التجربة الأكاديمية التي استبنينا شخصيتينا عـبرها، فكانت الدراســة في أمّ الجامـعـات فـي السُّــودان: جامعة الخرطوم. ذلك في زمانٍ رعـتنا في أكـنافـها تلـك الجامعة كأمٍّ رؤوم، فـنهلـنا العلم في قاعات دروسـها، وقــتَ أنْ كانت الدراســة في تلـك الجامعة، منحة نَعـِمْـنـَا بإنفـاقِ إدارتهــا علينا بحــاتمية أكاديمية في بلد يُصنّــف مِن بـيــنَ بلدان العالم الثالث .

أمّا كسبنا من تجربة الدراسـة في تلك الجامعة، فـقــد كان أعـمق من الذي تلقيناه في قاعـات الدّرس، وأوسع ممّا ألفنا في حواري وأحياء مدينتنا الحبيبة. تعلـمـنا أن نستصحب العـام إلى جانب الخــاص، فيما تشـعّـبتْ إنشــــغالاتنا واهتماماتنا بقضايا المجتمع والثقافة والسياسة. وإلى كلِّ ذلك، سترَى أنَّ الكتابة وَحرفة الأدب، قـد لحقتْ بي وبِـشقيقي المهندس المعماري الأديب فاستهوتْ كلـينا، وإن أفلحـنـا بمجاهدةٍ نترك لك عزيزي القاريء، تقييم درجات نجاحنا معـاً في المزاوجة بيـنها ومهنـة كلٍّ مِـنّـا.

ثُـمّ إنّي أدعـوكَ، عـزيزي الـقـاريء، لتقـتربَ مِن كتـاباتِ المُهنـدس الأديب عـبدالـلـه الشـقـليني، وثقتي أنكَ مُلاقٍ فيها ما قد يأسِــرك، أو قد تجدَ بعضَ مُتعةٍ في مؤانسـاته المشــوّقة في كتابه هذا وما حوَى من مقالات وأقاصيص.

قـد يقـفَ القـاريء وقـفـةً حـيـرَى أمام ما قــد يُلاقـي مِــنْ بعضِ عُـسْـرٍ في تصنـيـفٍ قاطـعٍ لكتـاباتِ شــقـيقي المُهنـدِس عـبدالـله الشّـقـلـيني، فإنـك قد ترَى فـي بعـضِ ما جاء مِــن قلـمُـه الســيّال، كتـاباتٍ تشــبهَ القصـصَ القصـيـرة، ولربما رأيت فـي بعضـها ما شــابه الذّكريات الشـخصية الخاصّـة ، أو الانطـبــاعات الأعـمـق في جـــوانب تلامِـس أمور الثقـافة والسـياسـة والإجتماع. لكـنّي أقـولُ لـكَ قـول مُحـايدٍ ، إنّي أصنّـفها شـــهاداتٍ ومشــاهداتٍ، رصَــدهـا كاتـبـُهـا بعـيـونٍ أعانتـه لإمعـانِ البصـرِ فيما حوله ، وإحســان رصدِ انـفـعـاله بما دار ويدور في مجتمعِ مدينته أم درمان أواسِـط أعوام الـقــرن العشرين. لذا فإنَّ بعـضُ صفحــاتِ إبداعـهِ هيَ تأريخٌ مُيَــسَّرٌ لوجـدان تلـك المدينـة، وتمريناً إبتدائياً نحو تشكّل هـوية لبلدٍ لم يُكمِل عقـده الثالث منذ نيـله الإستقلال، فخرجـتْ مِن قـلـمـه تفـاصيل بَرعَ في صـوغـهـا بحـذقِ معمـاريٍّ عَـرِفَ كيـفَ يرسـمَ عُـمـراناً بديعـاً، يـقـف على أســاسٍ هـندسيٍّ متـيـنٍ ، مِـن دِقـة في المُلاحظـةِ وَحيــادِ في التفاعلِ وصدقِ في الإنفعـالِ، فامـتـدّتْ كتـاباته بنـاءاً ســامقاً، قام على عـُـمُــدٍ مســتقيمة تماسـكتْ جوانبـه، وترابطـتْ هـياكلـه، لتستقرأها عيناك بيسـرٍ وسلاسـة. ولعلَّ المهندس المعماريّ فيما لاحظتُ، لن يحذق مهنته إنْ لم يمتلك موْهــبة الرّســم وسعة الخيال وقـوة ذائقـته الجمالية . المعماريُّ فـنانٌ وَمُصمِّمٌ ، وَهـوَ غير المُهندس المدنيّ الذي ينشغل بإخراج وتنفيذ الخرائط والتصاميم التي يصيغها المعماريُّ صناعة ناعمة. إنْ أردتني أعينك لأقرّب الصورةَ بمثلٍ أوضح، فالمعماريّ هو مؤلف المسرحية والمهندس المدنيّ هـو المخرج المكلـف بإخــراج المسرحية على خشبة المسرح، تصميماً للخلفـيات، وتوزيعـاً لأدوار يتــولاها الممثـلـون، فتكون المتعة هي مكسـب جمهور المسرح.

ولأنّ المعـمــاريّ والأديب عبدالـلَّه الشقـليـني فـنـانٌ ومهـنـدسٌ أريــْـب، فـقــد جاءتْ مِـنـهُ عِـمارة الإبـداعٍ الإفتراضيٍّ تلـك، وهيَ في أبهَـى حُلـلها وتمام كمالها. إذا ما نظرتَ في غلافِ هذا الكتاب، لنْ يُريبـَك أنْ تلحظ ريـشــةَ الفنان الأديب عبداللّـه الشـقـليني وَقـد أنجزتْ لوحات تشـكيلية جاءتْ من فنانٍ مقتـدٍر مطبوعٍ ومعماريٍّ حاذق، وسترى بقية ما أبدع من رسومات تكحّل عيون بعض مقالاته في هذا الكتاب.

كثيرون لا يعلمون ما لذلك المعماري الأديب من مواهب فنـية اضافـية خفيـَّة، منها إجادته العزف على آلـة العـود، بعد إكماله فترة تدريبية في قصر الشباب بأم درمان ، إثرَ تخرّجه معمارياً بفترة وجيزة من كلية الهندسة والمعمار في جامعة الخرطوم. إذ بمثل عُـمقِ علاقته بمعلـمه الفـنان التشــكيلي الرّاحل مبارك بلال، فـقـد حفـظ لمعلـمـه الرّاحـل الموسيقار جمعة جابر، قدراً كبيراً من التقـدير والإعجــاب العميق. أمّا صديقه البعيـد صلاح حسـن أحمد فـقـد شــجَّعـه على ذلك منـذ أواســط سبعينات القرن العشرين، وصلاح نفـسـهُ أديـبٌ وفـنانٌ ألـمعـيٌّ، يعـرَف لهُ مُتابعـو الإذاعة السُّـودانية تلك السّنوات، مسلسـلاً قصيراً بعنــوانِ “الحـيـاة مِهـنتي”، مـن تألـيـفه نصّـاً وَموسَــقَـهِ ألحـاناً ، شغلَ الناس تلك الفـترة لجـدّته وتميّزِ حبكـته. أتذكّر صـلاحـاً وَعبدالـلَّـه حينَ أنجـزا معاً أعـمالاً بلمساتٍ موسيقيةٍ مُحـدثة، لبعضِ أغـنيات المُطرب الرَّاحل عبدالدافع عثمان ، في وقـتٍ خفـتتْ فـيه ســيرة ذلك المطــرب ، غير أنهـما أبقـيـا إنجـازهـما ذاك في دائـرة أصـدقائهـما المشتركين في داخليات جامعـة الخرطوم تلكم السنوات البهيّـة. ذلك ملمحٌ قد لا يلحظه متابعــو كتابات الأديب المعماريّ، كونه رَسّــاماً تشـــكيلياً وموســيقـياً بريعــا آثر أن يبقيه في الظلِّ.

ليـسَ عصـيّاً على مَـن مَلـكَ كلَّ هـذه المـواهــبِ وَهـوَ في دولة الإمـارات العربية المتحــدة، مِــن أن يكـون أحــد كـبـار مسـتشـاريّـيـها ومهندسيها لتصـميـم وتنفيذ حـــدائـق تلك المدينة ومزاوجتـها برؤىً، فـيـها من جمـاليات الـفــنّ التشـكيلي وَالـذّوق الـعـام ما يواكِبَ إيقـاع العصـرِ وروحـِهِ.

لـكَ أنْ ترتقــي على درجــات عِـمـارة إبداعـه المكتوب في كتابه الــذي ـبيــنَ يديــك، فتعـلـو مـعَـه وترفع عينيك درجــةً بعـد أخــرى، ثمّ تمضِي مِن فصلٍ إلـى آخــر، بل ومِــن طــابقٍ إلى آخــر، بنـاءاً نضّــدهُ لـكَ أديـبٌ مِعـمَــاريٌّ فـنـانٌ إسْـــمُـهُ عـبدالـلـه الشـقـليني. لـكَ أن ترتقـي، تلـك الدّرجَــات إرتقـاءاً ســلــسـاً، لا تُعـيـنــك عـلــى تـسَـلّـقـهِ مَصَـاعِــد كَـهــربيّة أو سِـــواها من مُعـيـنـات، وَلـنْ يلحَــق بعـيـنـيـكَ رَهَــقٌ ولا بقـدمـيـــك زلـلٌ، فأنـتَ في ارتـقــائـك، طـــائـرٌ يتقـافــزَ مِـنْ عُــوْدٍ لغُـصْـنٍ ، ومِـنْ غُصْـــنٍ لـبُسْــتانٍ ومـن بُسْـــتانٍ لـدوْحـــة.

أدعوك صَـادقا لتـرافـق صاحبي وصاحبَ الكتابِ، إلى تلك الدّوحـة مطـمـئـنا.

* صدر الكتاب عن دار باركود التوزيع والترجمة – السودان ، ويتوفر في معرض الكتاب -إمارة الشارقة نوفمبر 2024 وبقية المعارض العربية .

[email protected]


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.