الخرطوم – محمد رمضان ـ كان مجرد الحلم بالعودة إلى الخرطوم يلامس المستحيل، بعد أن نزح أهلها قسراً تحت وقع المعارك، وتوسّع رقعة الحرب نحو الجزيرة وسنار. بدت المدينة كأنها سقطت من الجغرافيا، وطواها النسيان، إلى أن بدّل التحول الميداني لصالح الجيش السوداني المعادلة، وبثّ روحاً جديدة في الجسد المنهك.
مارس.. حين استيقظت المدينة على وقع الحياة
مع نهاية شهر مارس 2025، استعاد الجيش سيطرته على كامل العاصمة، وبدأت الخرطوم تسترد إيقاعها. مباريات كرة القدم عادت إلى الميادين، ستات الشاي بسطْن طاولاتهن مجدداً، الكهرباء والمياه تدفقت في الشرايين، والمواصلات والأسواق استعادت جزءاً من حركتها النشطة. كانت لحظة احتفاء بالحياة، لحظة تشبه معجزة صغيرة تتفتح وسط الركام.
بوابات المدينة.. شواهد على جراح لم تندمل
لكن رغم هذا النبض الجديد، يبقى جرح الحرب غائراً. كل من يدخل الخرطوم عبر جسورها أو بواباتها يرى الدمار ماثلاً في الأبنية والشوارع، شاهداً على معارك شرسة جرت للسيطرة على مداخل العاصمة. تعاني الأحياء المحيطة بمقار الجيش كأحياء البراري، الخرطوم 2 و3، وسط المدينة، المطار، وتوتي من آثار المعارك، إلى جانب مناطق سلاح المدرعات في جبرة والشجرة واللاماب، حيث ما تزال جدران المنازل تحمل آثار الطلقات.
مدن بلا سكان.. وأحياء تهمس بألم الغياب
شوارع كاملة بلا بشر، مخلفات المعارك متناثرة، وبيوت كثيرة خالية، بعضها نُهبت محتوياته. في أحياء عدة، يبدو مشهد الأثاث المبعثر على الأرصفة عنواناً لفقدان الأمان. خلف كل بيت قصة غياب قسري، وخلف كل جدار صمت يروي فصلاً من الحرب.
التكايا.. ملاذ البسطاء وصوت الحياة اليومية
وسط هذا الخراب، اجتهد السكان في ابتداع سبل للبقاء. انتشرت “التكايا” في الأحياء، مطابخ جماعية تُعد فيها الوجبات، وتُشحن الهواتف، وتُغسل الأدوات. سوق الكلاكلة اللفة برز كأكبر الأسواق، تليه السوق المركزي وأسواق محلية مثل أركويت والدخينات. التكايا تحوّلت إلى مراكز للتكافل الاجتماعي، حيث نشأت علاقات جديدة في مجتمع أعاد تشكيل نفسه في قلب الأزمة.
الخرطوم تبني نفسها بالأمل.. لا بالموارد
رغم غياب الدولة إلا من حضور محدود للمحلية، وشركة الكهرباء، وهيئة المياه، يواصل المواطنون جهودهم لجمع التبرعات، وإعادة تأهيل ما تهدم. تُضخ المياه من الآبار عبر الطاقة الشمسية، وتُنصب المبادرات الأهلية في الأحياء كجسور جديدة للعبور نحو الغد.
ما بعد الحرب.. مدينة بأحلام جديدة
الخرطوم اليوم ليست كما كانت قبل أبريل 2023. واقع اقتصادي واجتماعي جديد يتشكّل على أنقاض الحرب، تحكمه روح جماعية تؤمن أن إعادة البناء لا تأتي إلا من الناس أنفسهم. ولعلّ ما يميز هذه المرحلة أن وعي سكان المدينة قد ارتفع، وهم يدركون تماماً أن معركة الإعمار لا تقل عن معركة الصمود.