«عبد الله محي الدين» : الراقص بالرموز الاجتماعية

عبد الله علي إبراهيم يكتب : «عبد الله محي الدين» : الراقص بالرموز الاجتماعية

(فصل من كتابي “الراحلون همو” في باب “كهنة الحزب”. وأعزو إلى المرحوم عبد الله صديقي وابن عمي عرض انضمامي للحزب الشيوعي)

انعقد يوم الجمعة (15 يناير 2010) سمنار “الأيادي الخضراء: خيال القائد المحلي وحيله” بقاعة المعتمدية بمدينة عطبرة. وأردنا بالسمنار تمييز الذكرى العشرين لرحيل عبد الله محي الدين الحسن القائد المحلي الفذ بحي الداخلة بعطبرة والمدينة بأسرها. فقد كان المرحوم إما رأس الرمح، أو أفضل مروج، لجملة مشروعات للإصلاح انتظمت الحي في سبعينات القرن الماضي.

واتفق للجنة العطبراوية التي تنادت لتمييز ذكرى الرجل العشرين أن تجعل من هذه الوقفة دراسة للخيال الذي صبه عبد الله في مشروعاته لتنمية حيه وللحيل التي اتبعها لجعلها حقيقة على الأرض. وكنا نشرنا إعلاناً بالصحف ندعو الراغبين للكتابة عمن عرفوا من قادة محليين اختصهم الله بإسداء الخير لأهلهم وعن أساليبهم في قيادة الناس من حولهم للغاية. وأردنا من ذلك أن نضع خبرة عبد الله في صنع الخير في سياق أشمل.

أول ما انتبهت إلى خيال عبد الله وحيله كان يوم طاف بي أرجاء مدرسة الدكتور محمد عبد الرحمن بحي الداخلة. ومحمد دفعتي منذ عطبرة الوسطى حتى صار أستاذاً مرموقاً للاقتصاد بجامعة الخرطوم. وفُجعنا فيه وهو في ثلاثينات العمر. صغير وعالم. قدمني عبد الله للطالبات فحيني بنشيد المدرسة الذي صار أغنية عطبراوية ذائعة:

محمد في عيون ليلي

محمد في ابتسام طاهر

محمد لسه في الجامعة

محمد لسه بيحاضر

وأجهشت في داخلي وذِكر زميلي الراحل الحسن تغرد به طيور الجنة. ثم أخذني عبد الله إلى غرفة في أقصى المدرسة. وجدت مكتوباً على بابها “مكتب جامعة الخرطوم”. سألته عن غرضه من ذلك. فقال إنه خصصه للباحثين من جامعة الخرطوم متى جاؤوا لمهام علمية للمدينة. فمتى جاء الواحد منهم تفرغ للكتابة في مكتب حسن الإعداد. وصعقني حسن تدبير الرجل. فقد كنت أعلم أنه اتصل بزملاء محمد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة الخرطوم وعرض عليهم عزم حي الداخلة إحياء ذكره بالمدرسة القائمة. واستحسنت الجامعة الفكرة وتبرعت لإنشائها بسبل مختلفة كثيرة. ولم يرد عبد الله لجميلهم على المدرسة أن يقف عند ذلك الحد وكفى. فأراد بمكتبه المخصص لباحثي الجامعة ذلك لا رد الجميل فحسب، بل “توريط” الجامعة بصورة لا فكاك لها في المشروع. ولقد جاء لهذا التوريط من يد الجامعة التي توجعها وهو البحث. كان ذلك من عبد الله سهراً على الخير المستدام منقطع النظير.

كانت لعبد الله فطرة لجمع الشمل وتوحيد الشتيتين. وهي ملكة لا يكون القائد إلا بها. والهمته في ذلك فيه فطرته للصلح في حي منقسم إلى شيع قبلية فيها أهل المكان والمهاجرون للخدمة بالسكة الحديد من شايقية وبديرية ورباطاب ودناقلة. ولم تخل خلطتهم من مخاشنة متوقعة قبل أن يتصاهروا فيسكنوا إلى بعضهم البعض. وتسربت هذه المخاشنة إلى الأندية الاجتماعية الرياضية وتمكنت حين مازجت كرة القدم بين الأندية بقواعدها “القبلية”. فرشحت الغلظة بين تلك الجماعات من باب منافسات كرة القدم. ولم يسأم عبد الله أبداً من قيادة الناس جميعاً على طريق الوئام. كان وادابياً (من نادي الوادي ذي القاعدة الشايقية البديرية) عميقاً، ولكنه تجاوز الانتماء الضيق إلى رحابة مشهودة. وكأنه اقتدى بالصوفية (وهو من حجراب البار بمنطقة كورتي شرق وفيهم صلاح) الذين يعرفون شيخهم ويحبون الكل.

فطرة عبد الله للصلح بيولوجية. فهو من باكورة تزاوج المهاجرين بأهل البلد. وبذا كان أدنى الناس إلى السلم بالحي. فهو على ضفتيّ كل خصومة تنشأ في الحي. فأمنه هو نفسه في أن يصفو الناس ويخلدوا إلى السلم. وسمعت في السمنار قصة أخاذة عن فطرة الصلح عند عبد الله. قيل إن المنافسات الرياضية أفسدت ما بين الوادي ونادي الجيل الذي تكون من شباب غير مكترث للأصول القبلية. وخشي عبد الله أن تتطور مباراة قادمة للفريقين إلى فتنة كبرى بين جمهور الناديين. فجاء ذات يوم إلى ندوة نادي الوادي واقترح عليهم تكوين وفد من أجيال النادي لزيارة نادي الجيل قبل المباراة لنزع فتيل الفتنة الكروية. واقترح عليهم أن يشمل الوفد ممثلين من جيل الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد. فكان فيه صبية ما بلغوا الحلم. وقبلت الندوة باقتراحه وزار الوفد النادي وأذهلت الجيل رحابة الوادي فجنحوا للسلم. والكمدة بالرمدة.

لفهم خيال عبد الله للخير والإلفة علينا أن نتوقف عند سياسات حي الداخلة نفسه.

فالحلة هي الأصل في عطبرة وسكنها الجعليون من قديم الزمان. وزعيمهم هو عمدة المدينة الشيخ السرور السافلاوي. ومنذ العشرينات توافد على سكنى الحي الشايقية-البديرية الذين لبوا نداء الخدمة في السكة حديد. وأكثر هؤلاء من الشاطراب الذين غرقت جزيرتهم المعروفة وأصبحوا بلا أرض ولا زراعة. وتوافد على الداخلة دناقلة ورباطاب وآخرون. وانطوت علائق المقيمين بالمهاجرين على سوء تفهم وعنف. غير أن آصرة الختمية ربطت بين الجميع بوثاق كبير. كما لم تخل العلاقة من تزاوج بين أفراد الجماعتين. وكان عبد الله نفسه ثمرة ذلك التزاوج.

كانت تلك البيئة البشرية هي مادة مشروع عبد الله كسياسي محلي. ويقال إن السياسة هي المهارة في بث الرموز بين الناس وحشدهم من حولها. وكسياسي محلي كان عبد الله قد أتقن هذا الفن. فهو يتبنى هذه الرموز ويذيعها بين الناس ليجسر بين جماعات الحي “القبلية” التي لم تسكن بعد إلى بعضها البعض في المدينة. وكان موفقاً في استيحاء هذه الرموز. فلما عزم على بناء مدرستين بالحي سمى الأولى بالعمدة السرور السافلاوي وهو من الجعليين الأصل في الحي وخليفة ختمي مرموق يجتمع حوله الشايقية الوافدون بعقيدتهم المعروفة في الميرغنية. وللمدرسة الثانية اختار اسم الدكتور محمد عبد الرحمن ابن الحي وأستاذ الاقتصاد بجامعة الخرطوم الذي رحل في ريعان العطاء. وهو من الشايقية-البديرية إلا أن أمه من أهل الداخلة الأصل. وكان الدكتور كثير التواضع هفت له القلوب وثكلته الداخلة. وهكذا كان عبد الله يقدر الرموز تقديراً يؤمن بها نجاح المشروع بوحدة الأفئدة والعزائم. وأطلق على مباني المدرستين ونادي الوادي “إهرامات الداخلة”. له عبارة ساغت على ألسن الناس.

وكان خياله للم الشمل فريداً درامياً. فلكي يشكر أندية الداخلة على تطوعها في بناء نادي الوادي سير عبد الله في يوم افتتاحه زفة موسيقية طافت بتلك الأندية واحداً بعد الآخر ينشر الفرح المستحق على الجميع. بل أنه رتب تكريماً في عام 1976 شمل العمدة السرور والشيخ ود نواوي، الفقيه صاحب السجادة، ومحمد عثمان كرن اليساري الذي احترقت طائرته فوق سماء الصين عائداً منها بعد زيارة في مهمة نقابية. كما شمل التكريم خضر مبيوع الرياضي المطبوع وعميد “مهرجي” الكوتشينة. كان حكماً لكرة القدم ويلعب الورق وصافرته حول عنقه يفعل بها الأعاجيب في خصمه. وهم من “قبائل” مختلفة وبمساهمات مختلفة في حياة الناس. كان لا يستثني أحداً في مشروعه. فهو يمسك الناس بمقابض رموزهم حتى لا يجد أحد سبباً يتذرع به دون المساهمة في المشروع المبذول.

كما كان ينزه مشروعاته عن مماحكات السياسة القائمة. وليس سببه في ذلك كراهة منه في السياسة. فقد كان سياسياً شيوعياً من فروة رأسه حتى أخمص قدمه. وكان يغشى المعتقل ويخرج من بين اليساريين في عطبرة. ولكنه كان سياسياً بحق للدرجة التي يعرف متى تبطل السياسة ويبدأ الخير المطلق. فعلى عدائه لنظام نميري كان لا يتورع من دعوة رموز النظام في الإقليم والمركز لافتتاح مشروعاته، أو الاحتفاء بها متى دعاها آخرون في الحي. بل كان “يجرجرهم” لساحته ليذكرهم بتبعتهم. فقد دعا السيد سعد عوض، محافظ المديرية الشمالية السابق، لافتتاح نادي الوادي في 1-1-75 وانتهز السانحة ليطلب منه التصديق بقطعتي أرض للمدرستين المذكورتين. وقد فعل. فهو كسياسي ينتظر حكماً أفضل مما هو قائم، ولكنه كمصلح يتعامل مع الحكم الموجود بغير تحرز.

وكان العرفان من مواهبه كقائد محلي. فلا تفوت عليه كبيرة ولا صغيرة متى جاء لشكر من أسدوا خدمة لمشروعه. ولا يفرق. ذكر المهندس يحي محمد صالح الذي صمم خرطة نادي الوادي، والمهندس هاشم محمد أحمد الذي رعى مشروع الوادي، وابراهيم الشبلي من وجهاء الحي، وابراهيم عثمان العربي التاجر المعروف في المدينة، ثم المعلم أحمدية رئيس فريق البناء. وذكر يد سلفت للسيد السلمابي، الصحفي المعروف ورجل الأعمال، على بناء النادي. ولم يتوقف هنا. فقد اعترف بفضل نساء من الحي قدن حملة إطعام المتطوعين للبناء من الداخلة وغير الداخلة. وكانت فبهن ست البنات وبت حمرا والعافية جبر الله. نساء لا يأبه بهن أحد غير مثل عبد الله الدقيق

وكان عبد الله لا يترك سانحة إعلام لا ينتهزها للترويج لأهرام الداخلة. كان يسود صفحات “بلتين” (نشرة السكة حديد) بمقاصد تلك المشاريع ومطلبها. وأحاط بتلك النشرة من كل جانب حتى صار محرراً فيها. ثم أصدر مجلة “الوادي” بالرونيو. وصارت منبراً لإذاعة خبر الأهرامات. فخصص بعض عدد يونيو 1984 للكتابة عن قصة بناء نادي الوادي. وأجرى في عدد مايو 1984 حواراً مع الدكتور ابن الداخلة يسين عمر يوسف (وسماه مثقف مرتبط بالأصل) عن مشروعات نادي الجيل. وفي الكلمتين يسفر عبد الله عن صحفي مولع بتفصيل الأدوار ودقائق الأداء والعطاء.

كنت جئت للسمنار في عطبرة بعد زيارة لبلدتي القلعة-أم درق في معتمدية مروي. ووقفت عند قبة للحجراب، أهل عبد الله محي الدين، يستلقي عندها أهل الرقدة الأخيرة الغراء. فلما اجتمعنا في عطبرة عند ذكرى عبد الله الصالح ذي الأيادي الخضراء قلت للحاضرين:” كنت أمس فقط أترحم على الموتى الذين تعلقوا بصلاح الحجراب ودُفنوا من حولهم. وها نحن نتحلق هنا حول حجرابي آخر وحول معان أخرى.” رحم الله عبد الله وأسكنه عالي الجنان.


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *