عثمان ميرغني يكتب : «مُسيّرات بورتسودان»

الدولة في أضعف حالاتها .. ضعف المؤسسات وضيق المؤسسية .. و غياب العقل السياسي واحتكار الحكمة في دائرة نصف قطرها رجل واحد..

سرب من 11 طائرة مسيرة حلق في سماء بورتسودن فجر أمس.. وفي الحال استقبلته المضادات اليقظة و نجحت في تدميره بالكامل.. لكن طائرة مسيرة إستراتيجية حديثة ودقيقة التصويب.. كانت تتخفى خلف السرب وتطلق صواريخها من مسافة بعيدة لتجنب الوقوع في مصيدة المضادات.. أصابت “جمالون” وبحمد الله لم نفقد الأرواح العزيزة علينا..

لم أتفاجأ مطلقاً عندما حملت الأخبار العاجلة استهداف مسيرات لمطار بورتسودان مع الخيوط الأولى لفجر أمس.. اتجاه الرياح كان واضحاً منذ أن اشتد أوار “حرب المسيرات” وتعمد تدمير البنى التحتية مثل مصادر توليد الكهرباء و المحولات وخطوط النقل.. ثم المطارات المدنية مثل مطار دنقلا وأخيراً مطار كسلا.. كان واضحاً أن التصعيد الأفقي سيطال بورتسودان..

بورتسودان عاصمة مؤقتة حملت أعباء قيادة المعركة و الدولة خلال العامين الماضيين.. بديلاً للخرطوم التي كان مطارها الدولي أول موقع يسقط في يد قوات التمرد.. ثم تلته مقار أكثر أهمية من بينها القصر الجمهوري نفسه الذي حرره الجيش عنوةً واقتداراً شهر فبراير الماضي.

هي الحـ؛رب تنشب أظافرها حيث ما امتدت يدها.. و طالما أن سلاح المسيرات قادر على التحليق فبالإمكان استهداف أي مكان .. و يتحمل الدفاع الجوي عبء صدها.. وحتى لو نجحت بعض الضربات فهو أمر متوقع يحدث في حرب روسيا وأوكرانيا رغم أنف آلة الحرب الحديثة المتوفرة لهما.

لا يفوت على المتابع الفطن.. ان قوات التمرد بعد الهزائم المتتالية و سيطرة الجيش على ولايات الوسط وتوجهه إلى الغرب في المرحلة الختامية من الحملة العسكرية.. تحاول استعادة الزخم الاعلامي الذي لازمها طوال السنة الأولى من الحرب عندما تقدمت بسرعة زاحفة من مدينة إلى أخرى حتى باتت على مشارف ولاية النيل الأزرق.

في تلك الفترة بدت كأنما هي القوة التي لا تقهر عسكريا.. ولكن الجيش الذي اتبع استراتيجية ذكية مبنية على النفس الطويل و التركيز على ضرب البنية الأساسية البشرية والتسليحية للتمرد.. نجح في تحرير ولايات, سنار والجزيرة و الخرطوم في زمن قياسي وتكلل بدخول القصر الجمهوري.. واستعادة المقار الرئيسية وكسر حصار سلاح الاشارة و القيادة العامة.

مع ذلك فإن الحكمة تقتضي توسيع دائرة النظر.. فالمعركة ليست كلها سلاح وضربات عسكرية.. بل أكاد أجزم أن ذلك هو الوجه الأصغر فيها.

هذه معركة دولة بكامل قوامها وليس المؤسسة العسكرية وحدها.. والدولة لها أذرع متعددة و مصادر قوة خشنة وناعمة..

ولكن للأسف حاليا الدولة السودانية مكبلة تماما.. الجيش يبلي بلاء حسناً و رفع رأس مواطنيه في عنان السماء.. فدائية لا توصف و حنكة مسنودة بمائةعام من التجربة والخبرة.. ولكن أين الدولة؟

بكل أسف.. الدولة في أضعف حالاتها .. ضعف المؤسسات وضيق المؤسسية .. و غياب العقل السياسي واحتكار الحكمة في دائرة نصف قطرها رجل واحد.. كل ذلك وأكثر كلف الشعب السوداني كثيرا ولا يزال..

الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان قائد الجيش لا أحد يملك الحق في منازعته سلطته العسكرية .. فالجيش مؤسسة منظمة لها تراتبية مقدسة .. لكن البرهان رئيس مجلس السيادة هو محل نقدنا المستمر لما نراه من حصر القرار في نفسه.. و إغفال تشكيل مؤسسات الدولة الأساسية التي لها حق الشراكة في صناع القرار والرقابة على أدائه والجهاز التنفيذي..

إفراغ البرهان لمؤسسات الدولة جعلها مكبلة متعثرة غير قادرة على استثمار مكامن القوة وعلى رأسها العلاقات الخارجية.. التي في مثل هذه الأحوال تمثل رأس الرمح في المعركة..

نحتاج لفتح باب النقاش على مصراعيه في ما يجب أن تفعله الدولة لإسناد الجيش.. في السياق السياسي و الدبلوماسي والاقتصادي.

حديث المدينة (الاثنين) ٥ مايو ٢٠٢٥م


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *