“علي المك” و “عبدالعزيز داؤود” همساتٌ من ضمير الغيب تُشجي مسمعي  

مساء السبت الرابع من أغسطس 1984م ، مات عبدالعزيز محمد داؤود ، كأنه بدأ رحلته في طريق الأبد مساء الجمعة ، وانطلق الموت يلهث إلى قلبه الكبير ، كان الغبار مساء السبت ، يشيع معنا أعذب الأصوات في تاريخ هذا الوطن ، دونما ضجة أو ثرثرة في الصحف ، هو أعذب الأصوات في تاريخ الغناء السوداني على الاطلاق ، وأنا أنظر إليه : أيمكن أن يخرس المرض هذا الصوت ، أو هذا الرجل الذي ما عهدت نفسه صمتاً طوال حياته ، فهو إما يتكلم أو يغني كانت نظراته بعيدة سابحة في بحار لا شاطئ لها ، والجلابية شراع مركب تستبد به الريح ، تعلو وتهبط مسرعة ، وفي ذات الأمسية والمطر يحيط بكادقلي ، ويضرب على سقف الاستراحة وجدرانها ، حتى علموا أن تلك القطرات تنبئهم أنها دموع تذرف على العبد العزيز الذي مات.

(1)

ضمن مؤلفه التوثيقي يقول البروفيسور علي المك ، أنه تعرّف على أبوداؤود أول مرة عام 1958م . ذهبنا إلى داره في الدناقلة شمال ، عبدالماجد بشير الأحمدي وأنا ، وكان الوقت عصراً ، وفي اتحاد طلاب جامعة الخرطوم حفل في ذات المساء ، وللرجل كانت سُمعة مدوية في (التعليق) وعدم الظهور في الموعد المضروب ، قال الأحمدي أنه يثق في بلدياته عبدالعزيز وفي كلمته ، الأحمدي من ناس بربر ، وكان بمدينته وأهلها يفاخر ، كنت في شك من الأمر كبير حتى أطل عبدالعزيز من الباب ورحب بنا ، قال سأحضر وبرّ بوعده وغنى ، ومنذ ذلك المساء توطدت صلتي به ، وصادقته بضعاً وعشرين سنة ، تعرفت فيها على زوجته وابناءه وأهله ، وكأني أهله . وحينما ماتت (فُلة) وهي كلبة الأسرة ، حزنت عليها زوجه حزناً شديداً ، خاصةً أن فله قد ألفت دار أبو داؤود ، وقد أحس بحزن زوجته لفقدها ، فناداها وقد استبدت به روح الدعابة فقال ( يا فوزية شدِ حيلك أنا شايف الجيران جايين يعزوك!! )

(2)

من هنا وهناك تأتي أخبار بداياته ، أنه مره غنى (زمانك والهوى أوانك) لعلي المساح عام 1939م ، وكان شديد الإعجاب بهذا الشاعر العبقري ، وكان يبحث عن قصائده يدونها ويغنيها ، غنى له (طول يا ليل على الباسل) وهي من بعد كلمة رائعة ، أتذكر خاتمتها : (جميع من سمى باسمو ، حرام النار على جسمو) وقد خلق بأدائه (غصن الرياض المائد) ثورة في الاَداء تتشرف بها مطالع الستينات ، وغنى له (بالله يا نسيم الصبا) ولم يتم تسجيلها في الإذاعة ، وربما كان هذا هو السبب في أن لم يكتب لها الذيوع . وفي مرة ذهب إلى عطبرة وسمع مطرباً مغموراً يغني أغنية بهره لحنها ، لم يتذكّر منها سوى قول المطرب (مساء الخير يا أمير) ولكن اللحن استقر في حنجرته لا يبرحها ، وحين لحظ المغني إنصات عبدالعزيز المركز ، شعر بأن الرجل بسبيل أن يخطفها ، ويستعمرها فأمسك عن الغناء ، ولكن قُضي الأمر ، استقر اللحن في ذهن أبوداؤود ، وبقيّ النص ، سافر عبدالعزيز إلى شندي وحمل قضيته إلى محامي الأغاني على إبراهيم خليل ، واسمعه اللحن وكانت الكلمات منها (أعار الصيد منك عيون .. وهدت ليك البانة لون)

(3)

كان عبدالعزيز يخضع للآلات الموسيقية مثل هذه الأغنيات التي ذكرنا من أغنيات الدلوكة ، أغنيات التمتم ، أغنيات البنات سمها ما شئت ، وكانت حرية القعدات الصافيات تبيح للغناء والحديث ؛ حرية مطلقة ، وأحياناً لا تشارك أي آلة موسيقية ، إيقاع الكبريته وحده يشعل الليل طرباً ، رجل لا يخطئ في آدائه قط ، مرة جاء الموسيقار عبدالله عربي يبحث عن عبدالعزيز ، كنت جالساً بدار اتحاد الفنانين ، سألني عربي قلت له إن عبدالعزيز سافر إلى عطبرة ، قال عربي (لكن أنا شايف برعي قاعد وأكرد وخواض وبشير كلهم موجودين ، السافر معاه منو ؟ ) قلت له ( غيّر ليكم .. قال ما عايز عازفين اشترى ليهو كروسة كبريت من دكان اليماني وسافر!! ) .

(4)

برعي والعود في يده ليس آلة .العود عند برعي إنسان يحبه ويعشقه فهو ابنه المدلل ، وعزف برعي عزف منفرد لا يطاول سماءه أحد ، عود برعي عود سوداني مثل اللون السوداني ، ومثل العيون العسلية تكون على وجوهنا جميعاً ، أن تفرد برعي بأمر من أمور الموسيقى ، فلأن الطبيعة قد منحته السر أن يعزف هذا اللون السوداني ، وهذه السمة التي لا نستطيع لها تفسيراً إلا أن نقول إنها شيء سوداني وحين أذاع برعي في الناس معزوفته (لحن الحياة) ، عرفنا من بعد ، أنه أعلن مولد الموسيقى الآلية وأعلن مولد المعزوفة السودانية المؤلفة تكون بعد المارش الشعبي ، واختصت به ، كانت فرق الموسيقى العسكرية ويعبر عنه بآلات النفخ الخشبية والنحاسية ، ثم ضروب من الإيقاع تؤديها طبول مختلف أحجامها ..

(5)

كانت صلة عبدالعزيز بأصدقائه ومعجبيه صلة قوية حسنة للغاية إذا مرض أحدهم عاده ، وان كانت عند أحدهم مناسبة جاملة كأحسن ما تكون المجاملة ، وقبيل موتها مرضت أمي مرضاً شديداً الزمها مستشفى الخرطوم الجنوبية ، وفيه قضت بعد صراع طويل ، وكان عبدالعزيز يعودها ، ويتحدث إليها مثلما هي أمه ، ثم كان يمر علينا ، بعض أهلي وأنا ، إذ كنا نمضي الليل في المستشفى بداخل السيارات ، ذلك بأننا كنا نحس أن الموت قادم لا محالة ، وأنه قد يغافلنا في الليل ، ويسرق روحها ، وحيناً يصعد تيرمومتر الرجاء في نفوسنا ، نقول أنها لا شك بدأت تسير في طريق العافية ، ثم ما تلبث حتي تعود في قبضة المرض اللعين حتى قبض الله روحها الطاهرة الطيبة ، وسط حزننا والأهل والأقارب وعبدالعزيز الذي ما فارق المأتم ولياليه ما فارق عبدالعزيز دارنا لحظة .

(6)

في الجلسات اشتهر أبوداؤود بالنكتة وروح الفكاهة ، وقد تأخذ مقاماً قريباً من الغناء ، وقد تنبثق فجأة رغم كل شيء ، وقد يحكي عبدالعزيز لي ملحة أو نكتة أنشأها أو سمعها ويريد أن يثردها على طريقته الفريدة يأتي إلى مكتبي في الصباح الباكر ويقول (سيد علي .. أنا جاييك بي واحدة بت كلب) أقول له طيب نسمع ينطلق ( طبعاً انت عارف اليومين دي الرُعاة بقى عندهم سوق ويهاجروا كمان ، عشان كده أسعارهم عالية ، المهم في واحد كان عنده خمس غنمايات ، قال أحسن يوديهم للراعي ، قام مشى ليهو وقال يا سيادتك تأخذ كم في الشهر وترعى الغنم ديل ؟ صاحبنا الراعي قال ليه والله انت عارف اليومين دي الحكاية قرصت معانا شوية ، يعني حناخذ منك مية جنيه .كل غنماية بي عشرين جنيه! صاحب الغنم ضحك كده وقال للراعي : الكُتب علينا ولا عليكم ؟ . حدثتني ماجدة ابنته ذات مره أن والدها قال لها نكته ويبدو أنه ألفها في حينه قال : يا ماجدة سمعتي بالجدادة الاستضافوها في الإذاعة ، قالت ماجدة (لا) قال : ( الجدادة دخلت الأستديو ، وبعدين كالعادة شكرت الإذاعة على اتاحة الفرصة ، واتكلمت عن مزارع الدواجن ، والأوبئة ، وحياة الجداد في البيوت أيام زمان . وبعدين المذيع سألها قال ليها تحبي تسمعي أغنية شنو ؟ الجدادة طوالي قالت ليهو : أغنية في الليلة ديك!! )

(7)

يشهد تاريخ الغناء السوداني منذ أخريات القرن العشرين وعلى أقل تقدير ، أن كلمة الغناء الفصيح ، وما أكثر الشعر الفصيح عندنا لم يقدر لها السيادة ، ولا أكاد أذكر شيئاً قد صار من بعض الألحان المألوفة ، وعلى مدى زمان طويل إلا رائعة الياس فرحات (عروس الروض يا ذات الجناح) التي اشتهر بأدائها الفنان الكبير زنقار ، ثم من بعد عهد الصمت مع ظهور الإذاعة في الأربعين ، ألفَ المستمع كثيراً من الشعر الفصيح والحمد يرجع للشاعرين بازرعة وقرشي محمد الحسن على أنهما قدما لعثمان حسين أغنيات كثيرة بالعربية الفصحى فكتب لهن النجاح الهائل ، ونذكر (خمرة العشاق) و (اللقاء الأول) لقرشي .ثم (القبلة السكرية) وأخواتها الفصيحات لبازرعة . ومن الملاحظ أن أبوداؤود بنى مجده الغنائي على قصائد انشأهن الشاعر عوض حسن أحمد ، مثل (فينوس) ثم جاءت (صغيرتي) متأخرت عهدها .ثم (هل أنت معي) التي يقول مطلعها “همسات من ضمير الغيب تشجي مسمعي” للشاعر المصري محمد علي أحمد شاعر على قد الشوق للعندليب كما اسهم عبدالمنعم عبدالحي في ذلك العقد المتلأليء بقصيدة (لحن الغذارى) وبازرعة (صبابة) وحسين عثمان منصور أجراس المعبد . ولابد لنا أن نؤمن اليوم أن أبوداؤود غد أجاد الغناء بالعامية والفصحى وهو أمر لم يصل إليه من قبل إلا عثمان حسين ، ومن بعد عبدالكريم الكابلي .


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.