عثمان ميرغني يكتب :دفع الفاتورة مرتين

حديث المدينة الأربعاء 26 مارس 2025
الانتصارات الكبيرة التي أنعم الله بها على الجيش والقوات المساندة له، والتي تكللت بتحرير القصر الجمهوري، ثم استعادة المقار الرسمية في وسط الخرطوم، جعلت ولاية الخرطوم في حكم المبرأة تمامًا من التمرد. فما تبقى من جيوب لن تصمد طويلًا.
هنا يبرز السؤال الكبير الذي ظللنا نطرحه منذ بداية هذه الحرب اللعينة: هل نعود لنفس الحال الذي كنا عليه حتى صباح السبت 15 أبريل 2023؟
الإجابة النظرية، التي سمعناها كثيرًا على ألسنة المسؤولين، هي: لا.
لا، لن نعود إلى ما قبل 15 أبريل 2023. لكن الواقع الآن يكذّب ذلك تمامًا.
التغيير الحقيقي يبدأ بمنهج التفكير، ثم بالمسلك الإداري العام للدولة، ثم بالسياسات التي تبرهن على عقلية جديدة استوعبت أخطاء الماضي وعبر التجارب السابقة، لتنتج وتستنبط منها منهجًا مستحدثًا لإدارة حاضرنا ومستقبلنا.
ما نراه شاخصًا أمامنا وبكل قوة هو منهج التفكير ذاته الذي جعل السودان، على مدى 70 عامًا، يكابد تخلفًا مهينًا في كل جوانب الحياة العامة: في الخدمات، والسكن، والعمل، والنقل، والطاقة، والتعليم، والصحة، وحتى آليات بسط النظام في إجراءات الشرطة والنيابة والقضاء.
خلال سنتي الحرب، ظلت مساحة وعدد المدن والولايات التي لم تتأثر إطلاقًا بالعمليات العسكرية الميدانية أكبر من تلك المناطق التي عانت من وطأة المواجهات الحربية. وبالحساب البسيط، كان من الممكن أن تتماسك الدولة في هيكلها وتستوعب صدمة الحرب من الناحية المؤثرة على حياة المواطنين.
النازحون إلى المناطق الآمنة يمارسون حياتهم بأقرب ما يكون إلى الوضع الطبيعي: يذهب الطلاب إلى المدارس والجامعات، والموظفون إلى أعمالهم، والعاملون في القطاع الخاص تتوفر لهم فرص عمل، مع استقرار تكاليف إيجارات المساكن والسلع، وحتى الترفيه والحياة الاجتماعية الطبيعية.
كان ذلك أول مبادئ الفشل، حينما وجد المواطن نفسه في العراء بغير سند ولا غطاء رسمي، ولا حتى وجيع يتألم بألمه. وأدرك كل مواطن أنه مطالب بمواجهة الأوضاع المتوحشة منفردًا، بينما كان متاحًا، وبقدر يسير من الجهد في ظل وجود إدارة حقيقية، ألا يعاني المواطن إلا الشجن النبيل.
وضاعت سنوات التعليم على ملايين الأطفال، ومثلهم من طلاب الجامعات، وتعطلت امتحانات السودان، وكادت الشهادة السودانية تذهب مع الريح.
الآن بدأت أفواج العائدين تزحف نحو المناطق المستعادة، لكن الأوضاع لا تزال على حالها. صحيح أن هناك جهودًا من الكهرباء والمياه للاستجابة السريعة، لكن بالضرورة هذا لا يعبر عن تغيير في الطريقة التي تدار بها البلاد.
المسألة لا تتعلق بالأعمال المطلوبة وإيقاع الأداء، بل بهياكل الدولة نفسها التي يفترض أنها استوعبت الدرس، وعالجت قصورها، وطورت نفسها لتواجه الحاضر بمسلك وأدب إداري جديد مختلف كليًا عن الماضي.
سأضرب مثالًا:
سمعت من أحد ملاك المصانع في المنطقة الصناعية بالخرطوم بحري أنه لن يستطيع إعادة تشغيل مصنعه ولا يرغب في ذلك، ليس لأنه عاجز ماليًا أو لا يرغب في الاستمرار في إنتاجه الذي اعتاد عليه لسنوات خلت، بل لأن بيئة المنطقة الصناعية، حتى قبل الحرب، لا تصلح لعمل منتج حقيقي بمعايير عالم اليوم.
بيئة تفرض على المصانع والأعمال واقعًا متخلفًا في كل شيء، لا يؤدي فقط إلى رفع تكلفة الإنتاج، بل إلى رداءته أيضًا.
ومثل هذا المستثمر كان يفترض أن يجد منطقة صناعية جديدة في مكان آخر، بمقومات ومواصفات تتناسب مع سنة 2025.
من المؤسف أن يدفع الوطن والمواطن ثمن الحرب مرتين.


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *