حديث المدينة السبت ٢٢ مارس ٢٠٢٥
لم يكن الأمر مفاجئًا للشعب السوداني، فقد كان الجميع واثقًا من أن الجيش لن يكتفي باستعادة القصر الجمهوري فحسب، بل سيحقق النصر في هذه المعركة الوجودية.
أولاً، لم يقتحم التمرد القصر بالقوة، بل كان حارسًا مؤتمنًا عليه بأمر الدولة. لكنه خان الأمانة وغدر بمن كانوا يتقاسمون معه لقمة إفطار رمضان. لذا، لا يمكن اعتبار استيلاء التمرد على القصر معركة بالمعنى الحقيقي، بل خيانة صريحة.
والآن يعود الجيش، لكن بصورة مختلفة. فقد قطع كل الطرق المؤدية إلى القصر الجمهوري وفصله عن بقية العاصمة الخرطوم، مانعًا الدخول والخروج، ليصبح الأمر محسومًا قبل إطلاق الرصاصة الأخيرة التي تعلن عودة القصر إلى حضن الوطن.
بهذا تنتهي مرحلة حاسمة تفتح الباب لما هو أبعد من ذلك: استعادة الأوضاع السيادية الرسمية بصورتها الطبيعية. فتحويل العاصمة مؤقتًا إلى بورتسودان كان بمثابة تقليص للوزن الدولي للدولة، واعتراف ضمني بأن البلاد تواجه تحديًا في إثبات قدرتها على البقاء والتماسك.
أما الآن، مع استعادة القصر الجمهوري، تعود مؤسسات الدولة السيادية والتنفيذية إلى الخرطوم لتمارس أعمالها بطبيعتها المعهودة، مما يغير المعادلة التي حاول التمرد من خلالها زعزعة الشرعية والتغلب على بعض القوى السياسية والدول المجاورة. لكن هذا المشروع فشل قبل أن يبدأ، بعد أن دق الاتحاد الأفريقي المسمار الأخير في نعشه بقراره عدم الاعتراف بأي حكومة موازية في السودان.
لكن هذا وحده لا يكفي. صحيح أن رمزية القصر الجمهوري وعودته تمثل دفعة معنوية كبيرة، لكنها ليست كل شيء. لا يزال هناك الكثير لاستكمال الشكل الطبيعي للدولة، وأهم هذه المتطلبات تعيين رئيس وزراء وتشكيل حكومة. ورغم أن الحديث عن ذلك طال كثيرًا، يبدو أن قناعة السلطة بهذا الخيار ما زالت بحاجة إلى المزيد من الإثباتات والتصريحات.
وفي ظل غياب ذلك، تظل الحكومة الحالية تدور في حلقة مفرغة من التحليلات والدعاوى السياسية المتوهمة، دون الوصول إلى تشكيل الهياكل الأساسية للدولة.
إن عودة القصر الجمهوري يجب أن تكون نقطة انطلاق ملزمة تعقبها -بأسرع ما يمكن- الإعلان عن حكومة كاملة الصلاحيات، تتحمل مسؤولياتها الطبيعية، لتخفف الضغط عن الجيش. فالجيش الآن يتحمل أعباء العمليات العسكرية إلى جانب المهام المدنية والتنفيذية، مما يؤدي إلى استنزاف كبير في الإمكانيات والجهود في مهام كان يفترض أن تتولاها جهات أخرى.
لا أدري ما الذي سيقوله الرئيس البرهان للشعب السوداني عند زيارته للقصر الجمهوري بعد تحريره. بالتأكيد ستكون هناك تهنئة وكلمات ملهمة تليق بالمناسبة العظيمة، لكنها قد تبدو مكررة، شبيهة بخطابات سابقة ألقيت عند فك الحصار عن القيادة العامة أو في مناسبات النصر الأخرى. من الحكمة أن تكون هذه اللحظة بداية دستورية حقيقية، يُتوقع منها -على أقل تقدير- تشكيل حكومة.
بل يمكن أن نرفع سقف الطموحات إلى ما هو أكبر: خطوات جادة نحو تعزيز المؤسسية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، وعلى رأسها المجلس التشريعي الذي يمثل محرك العمل التنفيذي ورئيس الوزراء الذي يقوده.
لا ينبغي أن تقتصر الفرحة بتحرير القصر الجمهوري على مجرد ذكرى عابرة أو حديث عاطفي عن بطولات الجيش والقوات المشاركة في العمليات العسكرية. بل يجب أن تكون نقطة تحول شاملة، ليس فقط في المجال العسكري، بل في بنية الدولة السودانية ككل. دولة تحتاج الآن إلى الانتقال إلى مرحلة “الجمهورية الثانية”، حيث تؤسس عهدًا جديدًا من النهضة والتنمية والاستقرار والازدهار.
نقلا عن ـ موقع صحيفة التيار
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.