أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾. حقاً إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ولكنَّ الَّذي يُكْسِب أثر الرَّجعة قيمةً إيجابيَّةً، هو عندما يرحل الإنسان ويترك وراءه إرثًا نافعًا، يُذكر في المحافل واللِّقاءات العلميَّة .
الكسب والعطاء
وُلِدَ حسن أحمد إبراهيم بمدنيَّة الدُّويم عام 1938، في أسرة ذائعة الصِّيت وذات ولاء ختمي، فكان جدُّه الخليفة الحسن أحمد والد الأستاذ سرَّ الختم الخليفة من كبار خلفاء الطريقة الختمية. بدأ حسن تعليمه الأوَّليِّ بمدرسة بخت الرِّضا الأوَّليَّة، ثمَّ مدرسة الدُّويم الرِّيفيَّة الوسطى، ومدارس الأحفاد الثَّانويَّة بأمِّ درمان. حصل على بكالوريوس الآداب في التَّاريخ (مرتبة الشَّرف) عام 1963. تمَّ اختياره ضمن الطَّلبة المتفوِّقين لمواصلة دراساته العليا في تاريخ السُّودان الحديث، وأشرف على أطروحته لنيل درجة الماجستير البروفيسور مكِّي الطِّيب شبيكة، وراجعها البروفيسور رتشارد هل (Richard Hill) والدُّكتور محمَّد إبراهيم أبو سليم. وكانت أطروحته بعنوان: “محمَّد علي في السُّودان: دراسة لأهداف الفتح التُّركيِّ- المصريَّ”، وحظيت الأطروحة باستحسان الممتحنين الخارجيِّين في العام 1966، ونشرتها دار التَّأليف والتَّرجمة والنَّشر (جامعة الخرطوم) في عام 1973. وفي العام الَّذي حصل فيه على إجازة الماجستير التحق حسن بمدرسة الدِّراسات الشَّرقيَّة والأفريقيَّة بجامعة لندن. وفي أوَّل مقابلةٍ له مع المشرف البروفيسور بيتر مالكم هولت (P. M. Holt)، أوضح له أنَّه لم يختر موضوعًا لأطروحته لنيل درجة الدُّكتوراه، فاقترح هولت عليه “معاهدة 1936 البريطانيَّة-المصرية” (The Sudan in the 1936 Anglo-Egyptian Treaty). يبدو أنَّ حسن- في بادئ الأمر- قد استسهل عمليَّة البحث في عام واحدة (1936)؛ لكنَّه بعد أن أطلع على الكمِّ الهائل من الوثائق المودعة بدار الوثائق البريطانيَّة، أدرك صعوبة الأمر، الَّذي استغرق منه ثلاث سنوات، لينال درجة دكتوراه الفلسفة في التَّاريخ عام 1970. ويُعْدُّ حسن من أفضل ثلاثة طلَّاب أشرف عليهم هولت في النِّصف الثَّاني من عقد السِّتينيَّات ومطلع السَّبعينيَّات، وتخصَّصوا في تاريخ السُّودان الوسيط والحديث والمعاصر، وكانت لهم إسهامات مقدرة في مجال تخصُّصاتهم التَّاريخيَّة، والطَّالبان الآخران هما ركس شوَّن أوفاهي (Rex Sean O Fahey)، الَّذي تخصِّص في تاريخ دارفور، ومارتن دالي (Martin Daly)، الَّذي تخصِّص في تاريخ السُّودان فترة الاحتلال الإنجليزيِّ-المصريَّ (1898-1956).
وبعد حصوله على درجة الدُّكتوراه، عاد الدُّكتور حسن إلى شعبة التَّاريخ بجامعة الخرطوم، وظلَّ يمارس مهامَّه التَّدريسيَّة والبحثيَّة بالشعبة لمدَّة عقدين من الزَّمان (1970-1990) وخلال هذه الفترة أشرف على وناقش العديد من أطروحات الماجستير والدُّكتوراه.
وفي كثير من المناسبات كان حسن يقرِّظ جامعة الخرطوم، ويصفها بأنَّها كانت “جامعة متميِّزة”، إذ وفَّرت لهم فرص التَّأهيل الأكاديميِّ في تخصُّصاتهم المتعدِّدة، ودعمت أسفارهم إلى معظم قارَّات العالم، وأهَّلتهم لبناء شبكات علاقات أكاديميَّة وإنسانيَّة واسعة، وثَّقت صلاتهم بمؤسَّسات التَّعليم العالي العالميَّة، وفتحت لهم آفاقًا جديدةً في مجالات البحث العلميِّ المتجدِّدة دومًا. ويؤكِّد ذلك قول صديقه البروفيسور مهدي أمين التُّوم في رسالته الأخيرة (وداعًا جامعة الخرطوم) إلى إدارة جامعة الخرطوم والرَّأي العامِّ: “هكذا رضعنا من ثدي هذه الجامعة العظيمة، وبقينا طوال الأربعين سنة الماضية نحاول ردَّ بعض ديونها علينا، ببذل أقصى ما نستطع من جهد؛ تدريبًا لأبنائنا الطُّلَّاب، ومساهمةً علميَّةٍ متواضعةً في مجالات التَّخصُّص، ومحاولات مستمرَّة للإصلاح والتَّطوير، وبناءً دؤوبًا لأسس الانطلاق نحو آفاق أرحب، ودرءً لكلِّ سهام التَّخريب الَّتي ظلَّت الأنظمة الشُّموليَّة- الَّتي ابتلي بها السُّودان- توجُّهها نحو جامعة الخرطوم وكأنَّها عدوّ لدود.”
وبعد سنوات الجامعة العامرة بالكسب والعطاء، انتقل البروفيسور حسن إلى كلِّيَّة السُّودان الجامعيَّة للبنات، حيث شغل منصب عميدها المؤسِّس (1990-1993)، معتبرًا تجربته في الكلِّيَّة تجربةً ناجحةً في مجال تعاليم البنات؛ لأنَّها أفسحت المجال للطَّالبات السُّودانيَّات القادمات دول الخليج، كما وفَّرت بعض المنح للطَّالبات القادمات من الأقاليم الطَّرفيَّة في السُّودان. إلَّا أنَّ إقامته لم تطل بالكلِّيَّة فانتقل إلى الجامعة الإسلاميَّة العالميَّة بماليزيا عام 1994، وقضى فيها أكثر من عقدين من الزَّمان. وإلى جانب مهامِّه التَّدريسيَّة شغل العديد المناصب الإداريَّة، رئيس قسم التَّاريخ والحضارة (1994-2002)، ونائب العميد للدِّراسات العليا والبحث، كلِّيَّة معارف الوحي والعلوم الإنسانيَّة (2002-2007)، ومدير المعهد العالميِّ لوحدة المسلمين (2007-2010)، وعميد المعهد الدَّوليِّ للفكر والحضارة (2010-2012). وتثمينًا لهذا العطاء المتميز حصل البروفيسور حسن على جائرة أفضل أستاذ على مستوى الكلية عام 2003، وجائرة البحث النوعي عام 2006 على مستوى الجامعة، وجائزة إسماعيل الفاروقي للأبحاث عام 2012 على مستوى الجامعة. وبعد أن آثر التقاعد بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا عاد السودان وختم حياته الأكاديميَّة مديرًا لمركز يوسف الخليفة أبوبكر لكتابة لغات الشُّعوب الإسلاميَّة بالخطِّ العربيِّ، بجامعة أفريقيا العالميَّة.
البروفيسور حسن والبحث العلميِّ
نشر حسن العديد من الأبحاث العلميَّة المتميِّزة، ويبلغ كمُّ الكتب المؤلَّفة والمحرِّرة والمترجمة الَّتي نشرها باللُّغتين العربيَّة والإنجليزيَّة اثنان وعشرون كتابًا، ويبلغ عدد الدِّراسات وفصول الكتب المحكمة الَّتي نشرها باللُّغتين العربيَّة والإنجليزيَّة أربعين دراسةً، إلى جانب الكمِّ الهائل من النَّدوات والمؤتمرات الَّتي اشترك فيها بأوراق علميَّة. والشَّاهد على جودة هذا العطاء البحثي حصوله على درجة الأستاذيَّة في التَّاريخ عام 1980 بجامعة الخرطوم، ويُعْدُّ هذا الكسب بمقاييس ذلك الزَّمن إنجازًا علميًّا مقدِّرًا. لا أستطع في هذه المساحة والمناسبة الحزينة أن أقف عند كلِّ الأبحاث العلميَّة الَّتي نشرها أستاذنا الرَّاحل؛ لكنَّ انتخب منها عملين أكاديمييَّن مميَّزين. أولهما كتابه عن “محمَّد علي باشا في السُّودان”، الَّذي يُعْدُّ من الدِّراسات السُّودانيَّة النَّاضجة، الَّتي تناولت فترة حكم محمَّد علي باشا للسُّودان، مستعرضةً أهدافها ودوافعها السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، المرتبطة بالبحث عن الموارد الطَّبيعيَّة مثل الذَّهب والمعادن، وتأمين منابع النِّيل لضمان استقرار عمليَّة الإصلاح الزِّراعيِّ الَّتي نفذها محمَّد علي باشا في مصر؛ والبحث عن الرِّجال لتجنيدهم في القوَّات المصريَّة وبيعهم في أسواق النخاسة.
علاقتي بالبروفيسور حسن أحمد
ترجع معرفتي العامَّة بالبروفيسور حسن أحمد إبراهيم قبل التقي به ذاتًا ووصفًا، عندما كنتُ طالبًا في المرحلة الثَّانويَّة؛ إذ كان كتابه “تاريخ السُّودان الحديث” مقرَّرًا على طلبة المساق الأدبيِّ، وظلَّ الكتاب يدرس في المرحلة الثَّانويَّة منذ عام 1979 إلى أن أستبدل بكتاب آخر في العقد الأوَّل من الألفيَّة الثَّالثة، ولذلك وصفه الطَّالب وقتها عبد العاطي بشير بقوله: “في ثالث ثانويّ درسنا مؤلَّفه تاريخ السُّودان، وقد كتب بلغة رائعة وسلسة، وأفكار مرتبة، تنمُّ عن ذوق رفيع وأدب بديع.” وعندما التحقتُ بكلِّيَّة الآداب جامعة الخرطوم، كان البروفيسور حسن نائبًا لعميد كلِّيَّة الدِّراسات العليا، وبعدها انتقل إلى عمادة كلِّيَّة الآداب (1984-1990)، خلفًا للبروفيسور إبراهيم الحردلو (1980-1984). وتعرَّفت عليه عن قرب عندما جاء زائرًا جامعة بيرغن بالنَّرويج عام 1998، ووقتها كنت على مشارف الانتهاء من أطروحة الدُّكتوراه، فقرأ الفصل السَّادس للأطروحة وعلَّق عليه تعليقاتٍ مفيدةً. ثمَّ بعد ذلك تفاكرت معه عن فرص العمل في الجامعة الإسلاميَّة العالميَّة بماليزيا، فطلب منِّي التَّقديم إلى قسم التَّاريخ والحضارة بعد الحصول على إجازة الدُّكتوراه.
خاتمة: بروفيسور حسن الإنسان
إلى جانب هذا الثَّراء الأكاديميِّ كان بروفيسور حسن إنسانًا فريدًا ونادرًا على طريقته، ولذلك وصفته البروفيسور نور فريدة عبد مناف، أستاذة الأدب الإنجليزي بالجامعة الإسلاميَّة العالميَّة بماليزيا، بقولها: “عندما كنت إداريَّةً شابَّةً عائدةً من دراستي للدُّكتوراه في أستراليا، وكنت واحدةً من حفنة رؤساء أقسام سيِّدات وسط رهط من الأساتذة البارزين، كان من الممكن أن يكون الوضع صعبًا جدًّا لولا الدَّعم اللَّطيف من بعض الزُّملاء أمثال البروفيسور حسن إبراهيم والبروفيسور إبراهيم زين، اللَّذان كنت اعتبرهم كآباء روحيِّين بالنِّسبة ليَّ. . . على الرَّغم من فارق السِّنِّ بيننا، كان البروفيسور حسن يعاملني على قدم المساواة، ويحترم آرائي في اجتماعات الكلِّيَّة، حيث كان صوتيّ كإداريَّة شابَّة أحيانًا يتمُّ تجاهله من قبل مجموعة من الأساتذة البارزين، لكنَّ البروفيسور حسن …
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.