حديث المدينة الاثنين 10 مارس 2025
كنت في طريقي إلى السفارة السودانية بالقاهرة. تعودت أن بعض أحبابنا السودانيين والسودانيات يديرون معي حلقات حوار مباشر بلا ترتيب. ورغم أني أحياناً أكون في عجلة من أمري، إلا أنني أسعد بهذا التلاقي العفوي، وأجتهد في استثمار العقول النيرة التي تقابلني. ومهما كان اللقاء صدفة وعفوياً، فإنه يمنح فرصة لتحسس الرأي العام.
قبل يومين، استوقفني أحد الأصدقاء وتحاورنا قليلاً، لكن فجأة قطعت حوارنا سيدة تبدو عليها الوقار والجدية. قالت لي إنها تتابع ما أقوله عبر الفضائيات، وتتفق معي تماماً، إلا في أمر واحد.
هنا، حشدت حواسي وانتبهت لكل كلمة. قالت: “ألا يمكن أن تغض الطرف عن أخطاء الحكومة والسلطة ريثما نخرج من هذا النفق؟”
وأضافت: “لا أعني أن ما تقوله خطأ، بل أقصد أنه قابل للتأجيل قليلاً.”
قلت لها: “لكن ما أقوله في تبصير الحكومة بما يجب أن تفعله لا يشغل الجيش عن مهامه التي اتفق معك أنها أولوية قصوى. أنا أتحدث وأنتقد الجانب السياسي والتنفيذي فقط. كلما تأخر الزمن في مراجعة وتصحيح بعض الأخطاء، تعقدت نتائجها وحلولها.”
لكنها لم تقتنع. ردت عليّ: “مهما كان، اتركوا كل شيء الآن. فقط المعركة ولا شيء غيرها. وبعدها سنجد وقتاً كافياً لمراجعة كل ما تنتقده.”
بالطبع شكرتها وأعربت عن سعادتي بالنصيحة. لكن بعد مغادرتها للمكان، قلت لصديقي: “هي مثلها وملايين السودانيين يظنون أن إصلاح الجانب السياسي في الدولة يشوش على المهام العسكرية للجيش. وفي تقديري، العكس تماماً هو الصحيح. لابد من تقسيم الملعب إلى نصفين: ما للجيش للجيش، وهو قادر عليه ويديره بأفضل وجه، وما للسياسة للسياسة، وهو في أسوأ حال، بما يشكل ضغطاً على الجيش الذي نحمله بأعباء أخرى بينما كان بالإمكان أن ندعم الجيش بتقوية الدولة.
الذي ذكرني بهذا الحوار مع تلك السيدة هو ما قرأته في الأيام الماضية لكثير من المعلقين في وسائل التواصل الاجتماعي بعد انتشار أخبار مزعجة عن إرغام أسر في مدينة مدني على العودة للنزوح بعد أن ساءت الأوضاع الأمنية، مع غياب الخدمات تماماً. وأكثر من ذلك غياب الإدارة المحلية التي ترعى شؤون المواطن.
ثم قرأت الأمر ذاته في كرري، لكن الصورة الأكثر خطورة هي ما راج عن أحداث في ميناء سواكن. أرغم المغتربين على توجيه نداء عاجل ينصح بعدم العودة للوطن.
في معظم الحلول التي اقترحها البعض، كان هناك دعوة للجيش بأن يتولى فرض النظام وحماية المواطنين من الفوضى. بعبارة أخرى، مطلوب من الجيش أن يخوض معاركه العسكرية، ثم يتولى حراسة الأحياء وتوفير أقسام لتلقي بلاغات المواطنين وفرض القانون.
هذا عين ما انتقدتنا فيه السيدة الكريمة، إذ اعتبرت أن غض الطرف عن الحكومة والإدارة المدنية يمنح الجيش تركيزاً أكبر في العمليات العسكرية. والعكس هو الصحيح. هنا تضعف الجبهة الداخلية ويتحمل الجيش مسؤولية الشرطة والإدارات المحلية والنيابة وربما القضاء.
الدولة – أي دولة – جسم متكامل لا يمكن تجزئته. والأمر لا يحتاج إلى معجزة. كل المطلوب تمتين هياكل ومؤسسات الدولة وتركها تعمل وفق خطط وإدارة تستبصر خطواتها بكل حرص، لتجعل المواطن يعيش حياته في أفضل وضع.
الأوجاع الأخيرة والشكاوى كلها مصدرها واحد: غياب مؤسسات الدولة.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.