فوجئت مثل غيري عندما اطلعت أمس على الوثيقة الدستورية التي أخيرًا وجدت طريقها إلى الرأي العام. ظننت أن الفترة الطويلة التي قضتها داخل مطابخ الدولة كانت كافية لجعلها مرجعًا يحكم السودان في هذه المرحلة الصعبة. لكنني فوجئت بالأخطاء الجسيمة سواء في المبنى أو المعنى.
وقبل أن أفصل في الموضوع، يجدر الإشارة إلى أن الوثيقة منحت مجلس السيادة الانتقالي سلطات تنفيذية رئاسية مباشرة، متخطيةً المفهوم السائد منذ ما قبل الاستقلال بأن المجلس لا يملك صلاحيات تنفيذية، خاصة في ظل وجود منصب رئيس الوزراء المختص بالعمل التنفيذي. وهذا يربك الدولة لأنه يخلط مستويات الحكم بشكل تتداخل فيه الصلاحيات والسلطات، مما يجعلها حلبة صراع، وفي النهاية، الغلبة لمن يستقوي بالسلطات العسكرية.
من الواضح أن فلسفة التعديلات تقوم على تكريس الوضع الراهن وإفراغ مؤسسات الدولة من قدرتها على تحقيق توازن السلطات (Checks and balances). وهذا استثمار واضح لواقع الحرب الذي يصرف الأنظار عن متطلبات وشروط بناء دولة حديثة مكتملة القوام والمؤسسات.
من أهم التغيرات في الوثيقة هو تجاوز أي تعريف أو تحديد واضح للشراكة السياسية بين المؤسسة العسكرية والقوى السياسية الممثلة للشعب، مما يعني عمليًا أن تكوين المجلس التشريعي سيخضع لضوابط صارمة تضمن أن يكون تابعًا لمجلس السيادة وغير قادر على ترجيح كفة المؤسسية والرقابة والتحكم في بوصلة الحكم.
من المؤسف أن هذه الحرب الضروس، التي دفع أربعون مليون سوداني ثمنًا فادحًا لها، قد يطول سداد فاتورتها على الأجيال القادمة، بينما كان الأمل أن تفرز هذه الحرب عبرة تصحح كل تاريخنا السياسي منذ الاستقلال، ويصبح السودان دولة حديثة تحظى بكرامة وعافية المؤسسات. لكن يبدو أن البعض يصر على أن يحقق أعلى المكاسب الضيقة بدلًا من المكاسب القومية الواسعة.
نقلا عن صحيفة التيار
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.