التجاني الحاج عبدالرحمن
لا يمكن أخذ الخطاب الذي ألقاه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بمعزل عن عدة خطابات أخرى ومتغيرات داخلية وميدانية، فكلها تمثل سلسلة مترابطة يمكنها أن تفسر لنا بهذه الدرجة أو تلك الموقف البرهان الحقيقي الحالي، والتي على ضوئها يمكن التوقع بمصير هذه الحرب.
بداهة أولية:
بحكم تاريخ الفريق البرهان الطويل في عدم الإيفاء بما يقوله، سنعتبر بداهة أن خطابه الأخير يندرج تحت نفس سلوكه السياسي المتكرر كاحتمال ذو قيمة كبيرة الحدوث، بمعني إننا لن نندهش إذا حدث خلال الأيام القادمة أن تراجع الرجل عما قاله!. لكن مع ذلك، فهذا لا يمنع من أخذ حديثه على محمل الجد حتى وإن كانت نسبة الحقيقة فيه ضئيلة، لأن موضوعية القراءة السياسية تجعلنا نبحث حتى في ذلك الاحتمال الضئيل طالما أن إمكانية حدوثه واردة. وسنحاول أن نرى ماهي العوامل التي قد تساعد في ذلك.
عناصر الخطاب:
- لا تفاوض مع الدعم السريع.
- تحذير المؤتمر الوطني بأن لا عودة للحكم على أشلاء السودانيين.
- تحذير إلى القوى السياسية الأخرى.
- الإفصاح عن نية إلغاء الوثيقة الدستورية وكتابة وثيقة دستورية جديدة.
- تكوين رأس دولة قد يكون مجلس (سيادي، رئاسي، عسكري).
- تعيين رئيس وزراء يكوّن حكومته من كفاءات مستقلة.
- فترة تأسيس وانتقال.
- انتخابات.
- قرارات بالعفو عمن تخلي عن الدعم السياسي للدعم السريع، إضافة إلى قراره بعدم منع أي سوداني من الحصول على أوراق ثبوتية.
هذه العناوين الجانبية التسعة لها منطوق خطاب ومسكوت عنه، لكن من الناحية المبدئية فلنقف في الموضع الذي أشار إليه ياسر سعيد عرمان بأن ذلك “انتقال من موقف حل الحرب إلى الموقف الحل السياسي”، وهذا هو الجديد المطروح على الساحة. فقد انتقل البرهان عملياً بهذا الخطاب من موقع (بل بس) إلى موقع (فلنتحدث)، وتم ذلك في فترة وجيزة، إذاً ما هي الأسباب؟ سنبحث عن الإجابة في هذا المقال من خلال عد دوال متغيرة هي: (١) دالة الواقع الميداني للطرفين (مسرح العمليات العسكرية)، (٢) دالة ردود الأفعال الداخلية. لكن قبل ذلك هنالك ملاحظة لابد من تدوينها حول عناصر الخطاب قبل المضي قدماً، وهي أن كل هذه العناصر ذات طابع تكتيكي، وقد تتناقض عند حساب تفاعلاتها الداخلية، وبالتالي فهي إما خطوة في عتبة خيارات إستراتيجية قادمة مهما كانت نتائجها، أو أنها خطوة تكتيكية للتغطية على مسكوت عنه داخلها، وللبرهنة على ذلك سنضع أمام كل عنصر أساسه المنطقي المحتمل.
- العنصر: (لا تفاوض مع الدعم السريع). الأساس (الحروب الحديثة لا تحقق حسماً عسكرياً نهائياً فحتى الاستسلام هو في نهاية المطاف شكل من أشكال التفاوض ينتهي إلى صيغة سياسية ما).
- العنصر: (رسالة تحذير إلى المؤتمر الوطني بأن لا عودة للحكم على أشلاء السودانيين)، الأساس (سيطرة الإسلاميين على مفاصل الدولة والجيش تدحض هذا التحذير وتجعله بدون قيم سياسية، فكيف تحذر من يملك القرار السياسي النهائي في يده، وفي ذلك، فهو تحذير من لا يملك إلى من لا يستحق).
- العنصر: (تحذير إلى القوى السياسية الأخرى)، الأساس: (تدني القيمة السياسية لهذا التحذير).
- العنصر: (إلغاء الوثيقة الدستورية وكتابة وثيقة دستورية أخري)، الأساس: (انعدام القيمة السياسية والقانونية لهذا العنصر باعتبار أن الإلغاء تم عملياً بانقلاب ٢٥ أكتوبر، فكيف يتم إلغاء ما هو مُلغي أصلاً من الناحية الدستورية والعملية، وبالتالي فهو في أفضل الأحوال تحصيل حاصل غامض لعملية طرح وجمع غير واضحة الحدود حتى الآن).
- العنصر: (تكوين رأس دولة قد يكون مجلس (سيادي، رئاسي، عسكري))، الأساس: (تحصيل حاصل انقلاب ٢٥ أكتوبر).
- العنصر: (تعيين رئيس وزراء يكون حكومته من كفاءات مستقلة)، الأساس: (تحصيل حاصل انقلاب ٢٥ أكتوبر).
- العنصر: (فترة تأسيس وإنتقال)، الأساس: (التناقض هو كيف تقوم هذه الفترة بدون قوى سياسية ــ نقرن ذلك بحديث ياسر العطا باعتبار أن خطاب الرجلين (ياسر والبرهان) يكمل بعضه البعض).
- العنصر: (انتخابات)، الأساس: (التناقض هو كيف تقوم هذه الفترة بدون قوى سياسية ــ نقرن ذلك بحدث ياسر العطا باعتبار أن خطاب الرجلين (ياسر والبرهان) يكمل بعضه البعض).
- العنصر: (قرارت البرهان بالعفو عمن تخلي عن الدعم السياسي للدعم السريع إضافة إلى قراره بعدم منع أي سوداني من الحصول على أوراق ثبوتية). الأساس: (مدخل وفتح الطريق أمام تفاوض مع القوى المدنية).
دالة الواقع الميداني:
الواقع الميداني حتى قبيل استعادة مدينة ود مدني بواسطة الجيش يمكن توصيفه بالانتشار الواسع النطاق لقوات الدعم السريع مقابل انحسار كبير للجيش، والذي تم تقديره بسيطرة الدعم السريع على ما يقرب من الـــ ٧٠٪ من مسرح العمليات. وتعتبر اللحظة الفارقة التي تغير معها شكل مسرح العمليات بوتيرة سريعة، قد بدأت مع معركة جبل موية (المنطقة الرابطة ما بين مدينتي سنار وربك) واغتيال قائد الدعم السريع البيشي، تلا ذلك استعادة مدن الدندر، سنجة، السوكي، سنار، مدني، ومن ثم أجزاء معتبرة من العاصمة الخرطوم. ترافق ذلك باشتداد الحصار على مدينة الفاشر بدارفور وتكثيف الضغط عليها بواسطة قوات الدعم السريع عن طريق مضاعفة القوات المحاصرة للمدينة وانتقال المواجهات إلى نقاط حيوية داخلها. وتلاحظ أيضاً تزايد الطلعات الجوية بواسطة الجيش. الملاحظات الشديدة الوضوح حول هذه المتغيرات على مسرح العمليات تقول: “إن معظم عمليات إستعادة المدن المذكورة تمت دون قتال، ماعدا منطقة جبل موية على الأقل، وما يحدث في مدينة الفاشر حالياً. وبالتالي فإن ذلك يطرح عدة أسئلة:
- لماذا انسحبت قوات الدعم السريع وفضلت عدم مواجهة الجيش في كل تلك المناطق؟؟
- إلى أين انسحبت هذه القوات، وأين تمركزت؟
- ماهي الجدوى الإستراتيجية لانسحاب قوات الدعم السريع؟
- وبالمقابل أيضاً ماهي الفائدة الاستراتيجية التي جناها الجيش من استعادة تلك المناطق؟
ولكي نفهم جدوى طرح هذه الأسئلة يجب شرح مفهوم “القيمة الاستراتيجية” أو ماذا نعني به، ونعطي أمثلة للتوضيح. فالمعروف في أي حرب هناك دائماً هدف عسكري إستراتيجي مربوط بشكل صميمي بهدف سياسي إستراتيجي أيضاً، ويتمثل الهدف الإستراتيجي العسكري في كسب الحرب أو تحقيق النصر النهائي، ومعني تحقيق النصر النهائي هو تحطيم القدرات العسكرية للخصم بحيث لا يعد قادراً على مواصلة الحرب، وبالتالي إجباره على الاستسلام، وهو المدخل إلى تحقيق الاستراتيجية السياسية التي من أجلها قامت الحرب. وبالتالي، فإن سلسلة المعارك التي يتم خوضها في هذا المسار يجب أن تكون كل حساباتها تخدم هذا الهدف النهائي. وفي هذا المسار أيضاً، تكون هناك معارك ذات قيمة وأخرى ليست لها قيمة، ومن يكسب الحرب في نهاية المطاف هو من يعرف ماهي المعارك التي يجب عليه خوضها، فعندما تخوض معركة ليست ذات قيمة يعتبر ذلك إهدار للموارد وربما ايؤدي إلى الوقوع في فخ خطأ عسكري إستراتيجي يقلب كل موازين الحرب وسأورد هنا ثلاثة نماذج.
النموذج الأول:
وهو نموذج للخطأ الإستراتيجي القاتل، وهو من تراث الحرب العالمية الثانية: كنت قد ذكرت في مقال سابق حادثة ضرب ميناء بيرل هاربر بواسطة البحرية اليابانية بقيادة الأدميرال ياماماتو، فبعد إن تم تدمير قطع الأسطول الأمريكي الرابض في ميناء بيرل هاربر قال ياماماتو قولته الشهيرة “أخشى ما أخشي أن يكون كل ما فعلناه هو أننا أيقظنا عملاقاً كان نائما”. وهذه الجملة في الواقع كانت تعبير عن خلافه مع الإمبراطور هيروهيتو، فهو كاستراتيجي حرب كان يري عكس ما يري الإمبراطور من أن لا جدوى من ضرب الأسطول الأمريكي، لان ذلك يجعل أمريكا تدخل الحرب إلى جانب أوروبا مما يغير موازينها، وبالفعل فالرجل كان ذو بصيرة نافذة، فأمريكا كانت وحتى عشية ضرب ميناء بير هاربر مترددة في دخول الحرب. لذلك فعندما حدث ضرب الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر وجدت المسوغ القانوني والأخلاقي لخوض الحرب. لذلك فمعركة بيرل هاربر كانت خطأ إستراتيجي قاتل دفعت اليابان ثمنه غالياً بحيث جعلها تخسر الحرب في نهاية المطاف.
النموذج الثاني:
فهو للخيار الإستراتيجي الصحيح، وهو أيضاً من تراث الحرب العالمية الثانية، وهو ضرب قوات الحلفاء لموقع كنيسة مونتي كاسينو بإيطاليا. يعتبر موقع كنسية مونتي كاسينو إستراتيجياً لانها كانت تتحكم في الطرق والممرات التي تؤدي إلى روما، وقد تمركز فيها الألمان مما مكنهم من قطع الطريق أمام قوات الحلفاء ومنع تقدمها إلى روما لوقت طويل. وقد دفع ذلك قوات الحلفاء إلى التضحية بالقيمة التاريخية والأثرية للموقع وتدميره بشكل كامل لفتح الطريق. وبالفعل كانت معركة مونتى كاسينو الصغيرة، نقطة تحول كبيرة في الحرب العالمية الثانية أدت إلى تقدم الحلفاء نحو روما وبداية انحسار القوات الألمانية وتراجعها، ترافق ذلك مع خسائرها في الجبهة الروسية، مما مهد الطريق أمام عملية إنزال النورماندي وهزيمة ألمانيا وإستسلامها.
النموذج الثالث:
وهو من تراث الثورة الإرترية، ففي النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي كانت قوات الجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا على مشارف العاصمة أسمرا وقاب قوسين أو أدني من تحرير أرتيريا بالكامل من قبضة النظام الأثيوبي، لكن فجأة ومن دون مقدمات انسحبت قوات الجبهة الشعبية من كل المواقع وعادت لتتحصن بمدينة نقفة في أقصى الشمال، وقد عُرف هذا الانسحاب في أدب الثورة الإرترية بــــ (الانسحاب الإستراتيجي)، فعلي الرغم من أنه كان خطوة بالحسابات العسكرية غير مقبولة، غير أن تفسيرها كان يكمن في الاستراتيجية السياسية للجبهة الشعبية في ذلك الوقت. والتي تلخصت في أن الجبهة الشعبية لم تكن في ذلك الوقت قادرة على إدارة الدولة، مما قد يتسبب في إنتكاسة لمسار الثورة لاحقاً، لذلك فضلوا الانسحاب وإعادة تنظيم صفوفهم، وهذا ما حدث بالفعل، فبعد ذلك بأعوام قليلة إستعادت الجبهة الشعبية زمام المبادرة العسكرية عندما تمت إبادة حملة النجم الساطع التي قادتها أثيوبيا في منطقة تعرف بخور عشورم، ليتم تحرير إرتريا في ١٩٩٢م. وعموماً وبحسب التفسيرات والنتائج يظل الانسحاب الذي قامت به الجبهة الشعبية في ذلك التوقيت خياراً إستراتيجياً صحيحاً إلى أن تظهر معلومات جديدة.
على خلفية الفذلكة والنماذج التي أوردناها عاليه، مقارنة الأوضاع الميدانية وتطوراتها ذات الصلة في السودان، كيف نقرأ خطاب البرهان، وفي أي خانة يمكن أن نضعه؟ هل هو خطأ إستراتيجي أم خطوة إستراتيجية صحيحة. وتنطبق نفس الأسئلة على الدعم السريع.
على كل حال، نبدأ من نقطة الثابت النسبي في رحلة الإجابة على هذه الأسئلة الصعبة، وهو أن هنالك وعلى الأرض، تتم عملية تحركات تكتيكية تبادلية ما بين الجيش والدعم السريع، صرف النظر عن أي خلفية سياسية لها. بمعني أن الدعم السريع ينسحب، والجيش يملاء فراغ هذه الانسحابات. وبالتالي، فإن حساب عملية الربح والخسارة النهائية في هذه التحركات التكتيكية تبدو واضحة حالياً في جانبها السياسي لصالح الجيش، مع غموض كبير في موقف الدعم السريع، والذي لا يمكن تفسيره مالم تتم الإجابة على أسئلة أين انسحبت قوات الدعم السريع؟ وأين تتموضع الأن؟ وماهي نوياها العملياتية المقبلة؟ ولماذا لا تقوم قوات الجيش باستهداف مواقع القوات والتشكيلات العسكرية التي انسحبت؟ إن الاجابة على هذه الأسئلة في الواقع قد تكشف لنا عن إستراتيجيات الطرفين وبالتالي شكل المواجهات العسكرية أو الترتيبات السياسية القادمة.
إلى أين انسحبت قوات الدعم السريع وأين تتموضع؟
على الرغم من الإجابة على هذا السؤال تتطلب معلومات استخباراتية ذات درجة كبيرة من الحساسية، لكن مع ذلك فهناك كوة تحليل ما يتوافر من بيانات شحيحة يمكن البناء عليها لرؤية الأمور بشكل قد يكون أقرب إلى المعقولية. فإذا افترضنا أن خيار قوات الدعم السريع هو الانسحاب الاستراتيجي، فإن خط هذا الانسحاب سيكون هو العودة على كردفان ودارفور، وبالتالي فهذا عملياً يتطلب عبور ضفة النيل الأبيض عبر الجسور التالية: (كبري الحلفايا، كبري شبمات، كبري النيل الأبيض، كبير الفتيحاب، كبري الدباسين، خزان جبل أولياء، كبري الدويم، كبري كوستي) … هل هناك أي خيارات أخرى؟؟ لا أظن، كل هذه الجسور بشكل عام السيطرة عليها موزعة بين الجيش والدعم السريع بدرجات متفاوتة، فهناك جسور يسيطر عليها الجيش بصورة كاملة وهناك أيضاً ما يسطر عليها الدعم السريع بشكل كامل وفيها ما هو مقسم بينهم. لكن الشاهد أنه لم تُرصد تحركات كبيرة لقوات الدعم السريع بحيث تعد كعملية انسحاب واسعة النطاق نحو الضفة الغربية للنيل الأبيض، مما يعزز فرضية تموضع قوات الدعم السريع في مناطق ليست بعيدة من المواقع التي انسحبت منها أصلاً، وينطبق نفس التوصيف على مدني وسنار وسنجة وحتى الدمازين. والنتيجة، أن هناك حجم كبير لقوات الدعم السريع متواجد في هذه المناطق.
أما لماذا لم تستهدف قوات الجيش قوات الدعم السريع التي انسحبت، فهذا هو مربط الفرس وهو سؤال لا تجيب عليه تبادلية الانسحاب والاستعادة، وإنما هو ذو صلة وثيقة باستراتيجية ما يتبعها كل طرف في هذه الحرب، والتي وعند قراءتها من الجانب العسكري فقد تعني بالنسبة للدعم السريع ما يشبه الانسحاب الإستراتيجي الذي قامت به الجبهة الشعبية الذي ذكرته أنفاً، وهو إعادة تقييم الأثر السياسي للحرب، وأهدافها التكتيكية، ومن ثم إعادة الهجوم مرة أخرى تحت أهداف تكتيكية جديدة تخدم إستراتيجية جديدة أيضاً. وللبحث عن ذلك الأثر فقد رشحت في كثير من الوسائط إشارات إلى أن الدعم السريع ينوي الهجوم على الولايات الشمالية، مما يعني تغيير مسرح الحرب بنقلها إلى عمق الكيانات الاجتماعية الشمالية التي تسيطر على الجيش وتدير هذه الحرب، وهي إستراتيجية جديدة إن صحت.
أما بالنسبة للجيش فيبدو واضحاً للعيان أن ما حققه نتيجة للانسحابات التي قامت بها قوات الدعم السريع، ليس ملء فراغ ميداني عسكري فحسب، بل يمكن القول انه ومن الناحية العملياتية بمثابة رأس جسر في تحقيق السيطرة السياسية عبر السيطرة الميدانية بأي صيغة كانت (بمعارك أو بدونها).
ولتأكيد هذه الفرضية نلاحظ ماتقوم به كتائب الإسلاميين الرديفة على الأرض، ففي الوقت الذي يقوم الجيش بالسيطرة الميدانية، تتجه هذه الكتائب نحو تحقيق السيطرة السياسية بفرض واقع أمني، مفاتيحه وأدواته في يدها لا يد الجيش، وهي عملية استباقية للسيطرة على الواقع السياسي لما بعد الحرب ضد أعداء آخرين ليسوا ضمن المشهد العملياتي. ويمكن قراءة ذلك من مقولة البرهان المفخخة “بأن لا عودة للمؤتمر الوطني على أشلاء السودانيين”. وهي رسالة قد تكون صحيحة أو تمويه أشبه بـــ (اذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السحن حبيساً)، والتي عندما نعيد كتابتها مرة أخرى على خلفية هذه الحرب ونتائجها ومتغيراتها فإنها تبدو كـــــ (سأحرمكم من السلطة إلى حين، وسأبقي فيها أنا، لكن سيكون الباب مفتوحاً أمامكم للعودة إليها عبر الانتخابات التي سأتحكم في نتائجها لصالحكم).
وقد يكون ذلك هو ما يفسر ردود الفعل المنخفضة الصوت للإسلاميين والتي سنتناولها لاحقاً. في الحقيقة هذه الاستراتيجية ليست غريبة، فقد سعى إليها د. حسن الترابي بالقوة الناعمة، وهو ما لم يفهمه تلاميذه في ذلك الوقت، وقالوا حينها مقولة من تملكه غرور السلطة “بعد لبنت ما بنديها لبغاث الطير”، وأعتقد أننا في طريق العودة لهذه الإستراتيجية مرة أخرى، لكن بعد إن فهم هؤلاء التلاميذ الدرس بالطريقة الصعبة ذو الكلفة العالية.
خلاصة هذه الجزئية تبرز لنا إستراتيجيتين تبدوان متعارضتين، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
- إستراتيجية الجيش: استعادة السيطرة على وسط السودان وشرقه، وفرض واقع سياسي جديد قائم على شرعية الجيش في الحكم استناداً على مفهوم (حرب الكرامة) ونتائجها المتمثلة في طرد الجنجويد (إن كان بالمعارك أو الاتفاقات غير المعلنة)، وفتح الطريق أمام المواطنين للعودة إلى منازلهم وممارسة حياتهم. هذه الإستراتيجية تبدو واضحة الملامح في حديث البرهان والرسائل التي يحملها، مضافاً إليها حديث ياسر العطا. ومقرونة أيضاً بالبيانات الصادرة من المؤتمر الوطني ورئيسه أحمد هارون وجهاز شبابه. فكلها بيانات جاءت خجولة ومؤيدة بصورة أو أخرى لخطاب البرهان، وتكاد كلها تتفق على نقطة جوهرية، هي أنهم في انتظار الانتخابات. وبالتالي، فإن هذا الانتقال الفجائي من مربع (بل بس) إلى القبول بترتيبات تفضي إلى انتخابات، أمر حقاً يثير الدهشة والاستغراب، ويخدم في نهاية المطاف حزمة أهداف هي: (١) محو آثار الخطأ الإستراتيجي للحركة الإسلامية في تقديراتها ببدء هذه الحرب، وبالتالي الهروب المساءلة عن الجريمة التاريخية بارتكابها، وإستتباعاً قفل الطريق أمام أي محاسبة عن مسؤوليتها. وكما ذكرت وللتأكيد مرة أخرى فالسياق العام لمشهد التطورات الأخيرة يموضع هذا الهدف كمقايضة على الطاولة كثمن لعودة الحياة في السودان مقابل وقف الحرب. ٠(٢) الهدف الثاني يتيح للحركة الإسلامية التواجد المشروع مع الآخرين المختارين بعناية تحت مظلة الجيش، وهو ما يتيح ممارسة الضغط من خلال مرحلة التأسيس والإنتقال التي يتحدثون عنها للوصول إلى عتبة الانتخابات والتي ستكسبها الحركة الإسلامية (تحت أي مسمي جديد تختاره) تحت ذريعة أنها من انتصرت في الحرب وأعادت للناس بيوتهم، طردت الجنجويد إضافة إلى الثروة المتراكمة في يدها، كلها عوامل تخدم في نهاية التحليل إستراتيجية عملية إعادة تدوير الحركة الإسلامية في واقع ما بعد الحرب.
- إستراتيجية الدعم السريع: واقع الدعم السريع منفتح على عدة إستراتيجيات محتملة، فمثلاً، الانسحابات التي قامت بها قوات الدعم السريع، وإعادة التموضع في مناطق ليست بعيدة من مواقع سيطرة الجيش الحالية، إضافة إلى الضغط الكبير للسيطرة على مدينة الفاشر، كلها مؤشرات واقعية تقول أن الحرب لم تنته بعد، وربما تكون هناك موجة أخرى تعيد ترسيم مسرح العمليات من جديد. وكما سبق وذكرت أن هنالك إشارات بأن الدعم السريع ربما يقوم بالهجوم على الولايات الشمالية تحت إستراتيجية ضرب رأس الحية كما يقولون. وتظل هذه الإستراتيجية محتملة الحدوث. أيضاً قد يتفرع من هذه الاستراتيجية تكتيك مرحلي يتمثل في أن تقبل قوات الدعم السريع بالتموضع في دارفور وكردفان والسيطرة عليها، إما للإتجاه نحو خيار دولة جديدة في غرب السودان، أو البقاء إلى حين خوض حرب أخرى في مرحلة تاريخية قادمة، لكن في كل الأحوال يظل ذلك أمراً محفوفاً بالمخاطر، لأن ذلك يتيح للجيش في كل المراحل من نقل مسرح العمليات إلى مناطق الدعم السريع، وهو مكسب إستراتيجي لصالح الجيش يسمح له ليس فقط بمواجهة الدعم السريع في عقر داره، بل أيضاً دعم وتعزيز حلفائه (المشتركة) بقدر كبير هناك، في حال قامت هنالك حكومة للدعم السريع أم لم تقم. وهذا ما يمكن استقراءه من حديث العطا بــ”مطادرة الدعم السريع وعدم ترك ذرة رمل يقف عليها”. قد يكون هذا حديثاً غير واقعي من الناحية العملية، لكنه يفضح طريقة التفكير والإستراتيجيات التي تقبع خلفها. خلاصة القول في إستراتيجية الدعم السريع، إنها تظل منفتحة على احتمالات عديدة من الهجوم على مدن الشمال إلى التقوقع في الغرب السوداني. هذا ما لم يكن أن كل ما حدث، هو ترتيبات اتفاق غير معلن بين الطرفين له حدود وخطوط ترسم تحركاته الحالية والمستقبلية. والتي من المحتمل أن تكون نتائجها ــــــ إن صحت فرضية الاتفاق الغير معلن ــــــ هو العودة إلى مربع شراكة الطرفين على السلطة من الناحية الجوهرية، فقط مع اختلافات واقع الحال الذي خلفته الحرب على صعيد بنية الدولة وعلاقاتها السياسية، الاقتصادية والاجتماعية.
دالة التأثيرات الداخلية:
ستكون قراءتنا لمسار هذه الدالة معتمدة على ردود فعل المؤتمر الوطني، ذلك بحكم تحكمه في قرار الجيش، إضافة إلى إنفتاح المجال أمامه دون عائق لتشكيل الواقع السياسي الناتج من تحركات الجيش، وبهذه الوضعية فإنه يمثل المتغير المستقل الذي تعتمد عليه متغيرات أخرى في رسم وتخطيط واقع ما بعد الحرب. وفي ذلك علينا أن نقول إن دالة التأثيرات الداخلية تعتمد في تغيرها على دالة الواقع الميداني. وطالما أن الواقع الميداني الأن يقول إن هنالك انسحابات للدعم السريع تقابلها تقدمات للجيش، وسيطرة للأخير في مناطق وسط السودان بما فيها العاصمة الخرطوم، هذا يعني تزايد دالة التأثيرات الداخلية المتجهة نحو إعادة تشكيل الواقع السياسي لما بعد الحرب لصالح الإسلاميين القابعين خلف الجيش، أما كيف سيكون هذا الواقع، فهذا أمر فيه أكثر من قول. وكما ذكرت سابقاً، فطالما إن الإسلاميين من خلف الجيش يعملون على تشكيل واقعاً سياسي جديد من خلال إحكام السيطرة على الفضاء والنظام الأمني، فليس من المستغرب أبداً أن يكون رد فعل الإسلاميين هو القبول بخطوة خطاب البرهان، وفي تقديري ليس هنالك تناقض بين الموقفين. قد تكون نقطة البداية هي القوى التي ألفوها وتعاملوا معها (من سمت نفسها بالقوى الوطني) لكن مع ذلك فخطاب البرهان أيضاً فتح الباب أمام القوى الأخرى (تقدم) وغيرها للعودة تحت ستار التحلل من الدعم السياسي للدعم السريع، والعفو، والسماح بإصدار الأوراق الثبوتية، فكلها مؤشرات في هذا المسار لا تخرج من كونها عزومة مراكبية، ويبدو أيضاً أن الإسلاميين المسيطرين ليس لديهم مانع، لأن مثل هذه الوضعية في نهاية التحليل تخدم إستراتيجية شرعنة النظام الجديد الذي يسّوق له خطاب البرهان، التملص والهروب من مسئولية الحرب، وغسل ثوب الإسلاميين الملطخ بالدماء عبر الانتخابات القادمة. في حال حدوث ذلك فإننا حقيقة أمام تأسيس جديد للدولة السودانية قائم على استمرارية سيطرة الإسلاميين على مفاصل الدولة مع مساحات شديدة الضيق، ربما تكون شديدة العدائية أيضاً للقوى المدنية الأخرى، مليئة بثعابين القهر والضغط الأمني السامة التي لا تعرف حدود أو أخلاق كما تشهد بذلك أحداث التصفيات في كل المدن التي إستعادها الجيش. صفوة القول ربما نكون في مواجهة ما يمكن أن نسميه الجمهورية الإسلامية الثانية. لكن هل هذه الجمهورية الإسلامية الثانية قادرة على الصمود؟ سؤال سابق لأوانه، وربما حتى المساحات الضيقة قد تؤدى إلى التغيير، أو التناقضات داخل الإسلامين أو بينهم وبين قيادة الجيش أسوة بما سبق حدوثه فيما عرف بالمفاصلة بين الترابي والبشير ، وربما احتمالات أخرى خارج الأفق المنظور.
خلاصة:
خطاب البرهان الذي قدمه مفتوح على احتمالات عديدة، ذلك من خلال ما تقوله لنا علاقات عناصر الخطاب وأسسه المنطقية، والتي تصب نتائجها في خانة ما هو تكتيكي بحت، وتفتقر إلى البعد الإستراتيجي. فمهما حاولنا أن نربط هذه العناصر مع بعضها البعض لنرى ما هو الهدف الإستراتيجي الذي تطمح لتحقيقه في نهاية المطاف، نجد أنها على الدوام تنتهي بنا، وعبر كافة الاحتمالات، إلى سيطرة الإسلاميين من خلال استثمارهم في معادلة (يا نحن يا الحرب)، في مرحلته الأولى (مرحلة حرب الكرامة) إلى السيطرة الفعلية على الواقع السياسي خلال فترة استمرار الحرب، لحصد النتيجة الأخيرة، وهي البناء على كل هذه المسار ونتائجه لإعادة غسل ثوب الحركة الإسلامية في غسالة الانتخابات القادمة التي تستمد طاقتها من الجيش. نقول ذلك على خلفية النتائج التي خرجنا بها من بحثنا المقتضب في الدوال المختلفة، والتي حاولنا من خلالها أن نرى هل هنالك بالفعل هدفاً إستراتيجياً أخر ينتهي إلى الاستثمار في بناء دولة وأمة سودانية تنهض من رماد الحرب؟ لكن مع الأسف الشديد هذا الهدف لم نتمكن من استقصائه لا في منطوق خطاب البرهان ولا ردود فعل الإسلاميين، والشاهد في القصة أن مسكوت الخطاب هو ما يقفز أمامنا على الدوام مشيراً إلى السيطرة التي ذكرناها وأطلقنا عليها الجمهورية الإسلامية الثانية.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.