ما بين موت دنيا وولادة أخرى

وجدي كامل

بعض مما نجيده، وقد نتميز، ونتفنن في انكاره، وفي هذه الاثناء من التطورات الدقيقة من سير الحرب هو عدم الاعتراف بزوال حقبة مهمة من حياة المجتمع المدني او الحضري بالسودان، والذي اتخذ مبنى ثقافته، وتفاصيل مكوناته من اسلوب حياة في العديد من المدن السودانية الكبيرة (المنتهكة)، وفي اولها مكونات العاصمة المثلثة نفسها بما لحق بسكانها من خراب مركب ومعقد.
وكتفسير لذلك يجدر ذكر ان ما نشهده حاليا من عنف عسكري م منهج لإخوان وبادية متأسلمين بتهجم على البنيات الثقافية وخزينها من آثار، وتذكارات، وبأكثر من اعتداء ماكر، لا يعني انهيار المباني فقط، بقدر ما يعني انهيار المعاني. فالإنقاذ وبعمل خبيث دائم، مستمر من التنظيم قد اكتشفت، ومنذ بداياتها، ان التناقض بين مشروعها لاقامة السلطة الكاملة يحكمه تناقض بائن مع وجود المدنية، على قلة حيلتها، وعلاقاتها بمشروع حداثوي حقيقي، او حتى محتوى تمظهراتها كتركة هجين بين التطور الثقافي المحلي والكولونيالي، وبانها، اى تلك المدنية الهشة المتضعضعة تشكل حجر عثرة في طريق الحلم الإخواني بان يحكم.

ومن نافل القول وصف ان مؤسسات الطبقة الوسطى بنمط انتاجها الخدمي المتصل ببقايا دولة كولونيالية، ورغم تناقضاتها، وتجاذباتها بين التقليد والحداثة، قد قاومت، ولعقود ما بعد الاستقلال ضربات التنظيم الموجهة المتكررة في سبيل الإطاحة بها، وبحمولاتها من الثقافة السياسية، و الاجتماعية، والفنية، والأدبية منذ اطلاق النسخة الأولى من المطالبة بالدستور الإسلامي في نهاية الخمسينيات بالمطالبة التطبيقية لعام 68، حتى تمكن التنظيم من التسلل مخاتلا الى مراكز صناعة القرار في العشرية الثانية من حكومة 25 مايو، ما بعد مصالحة 78، وتدرجه في السيطرة التي دانت له بإصدار قوانين سبتمبر ٨٣. واذا كانت ثمة حرب صامتة قد صنعت، واستطاعت الانتشار المتدرج. فقوانين سبتمبر كانت قد شكلت المعمل التخصيبي ، والداعم الخفي لتلك الحرب الثقافية والإعلامية الناعمة تارة، والخشنة تارة أخرى للطبقة الطفيلية الاسلاموية الصاعدة، بما انتجته من تشوهات هيكلية ومفاهيمية في الاخلاق الاجتماعية، كما بنية السلطة السياسية، ومعايير وجدوى الحكم لما سيلي من سلطة بعد الانتفاضة ببذر الفتنة والتهشيم لوحدة ما تسمى بالقوى الحديثة عن طريق وضع عصي الدين في عجلة التحول الديمقراطي لاثارة الحساسية الدينية منعا لاج تغيير يرمي لدعم البناء المدني وتطويره، دعك من تجذير ممكن للديمقراطية الثقافية بواسطة القوانين العلمانية، ونشر مفاهيمها التربوية اللازمة لتأسيس الحقبة الجديدة من التطور.

 

 

لقد بدا واضحا ومؤكدا، ومنذ انتفاضة أبريل 85 ان أي تغيير لا يمس الغاء قوانين سبتمبر سيصبح تغييرا بلا محتوى، وان الانتقال الديمقراطي سيكون بلا اجنحة او ضفاف بان يصبح مجرد امنية في عقل قوى التغيير المدنية من منظمات، وتنظيمات سياسية. وهكذا اثبتت الأيام، وافصحت التجارب وبعلاقة مباشرة بحرب الجنوب، وتشكل الحركة الشعبية لتحرير السودان، مرورا بالانتفاضة ان بقاء قوانين سبتمبر، وعلى الرغم من انتفاض الشعب على حكم الفرد قد شيد المتاريس البنيوية في خلق الانطلاقات الحقيقية للحكم الديمقراطي، وان الانتفاضة التي مهرها اسهام اعدام الأستاذ محمود محمد طه في الاشعال ومقاومة القوانين الاستبدادية، المسماة غشا بالشريعة، لم تفلح القوى السياسية المدنية من الغائها رغم تصريحات الراحل الامام الصادق المهدي بانها لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به، واجتماع رأى العديد من القوى على عدم جدواها وبؤس نتائج تطبيقها.

 

 

وهكذا وبعد وقوع انقلاب الثلاثين من يونيو ٨٩، وانقضاء ثلاثة عقود ونيف من حكم التنظيم الإخواني بكل دراماتيكية وتراجيدية التطور الخاص بطبيعته، من الحفاظ وتثبيت العمل بقوانين سبتمبر رغبة في التخلص والانقضاض النهائي على بنية المدنية. بعد نحو ثلاثة عقود من حكم القوانين الجائرة واضافة قوانين اخرى كالقانون الجنائي، وتصعيد حرب الجنوب على الجبهات المتعددة، والقسوة في ذات الوقت على المقاومة بالزج بممثليها في بيوت الاشباح واضطهاد النساء والتنكيل بهن، ومراكمة راسمال القمع، وبعد انفجار ثورة ديسمبر ٢٠١٨ بذلك الزخم والقوة الا ان ان القوانين ظلت سارية، ومحمية حتى من قوى واحزاب تعرف نفسها حتى اللحظة كقوى معارضة للانقاذ والاسلام السياسي. غير ان ما يهم هنا ذكر ان الثورة، وبكل ما حملت من غضب وبسالة قد اثارت حفيظة الاخوان المسلمين الذين كانوا قد وضعوا، وبتقديراتهم للحفاظ على السلطة، كل ما يجعلهم مطمئنين الى ان من المستبعد القضاء على حكمهم بعد ان وضعوا ووفروا له كل الضمانات المادية والعسكرية والأمنية التنظيمية.

ان تطورات الثورة بما رافقها من خذلان جماهيري لازم نشاط الجهاز التنفيذي المتقاسم، او بالأحرى المتحالف في الحكم مع اللجنة الأمنية والدعم السريع قد لعب دوره في خلق المواجهة بين التنظيم المختبئ في اللجنة ورموزها العسكرية والدعم السريع ( بنحو أيديولوجي ) وبنحو تسبب في إعطاء الأيديولوجيا ذات الرأسين من كتابة الموقعة والمواقعة الجهنمية الأخيرة لها مع الوجود المدني الاجتماعي والثقافي بما اتخذه من تعبيرات هدم البشر واقتلاعهم من جغرافياتهم باعتبارهم بشرا حاملين ل (فايروس) المطالبة بالحكم المدني الديمقراطي برغم مكايدة الدعم السريع للتنظيم الإخواني باصطفافه لأجل ذلك الهدف والذي لا يعني لديه اكثر من توفر لصناديق انتخاب تملكه وتمتلكه كل الثقة في اكتساحه لها بالمال.
نخلص الى ان ما يتم حاليا من حرب شعواء، ومهما تعددت التفاسير، فإنها حرب ثنائية، القاسم المشترك لها، وفي نهاية المطاف المجتمع المدني وانسانه المستهدف بلغة عنف من القتل، والتهجير، والنهب، وتحطيم البنى، ومحو هويات الأماكن تمهيدا للقضاء على ذاكرتها التي لا تزال تقاوم بواسطة من تبقى من الاحياء من بشر، والذين، ومهما تكابروا، واسهبوا في العناد فانهم لا بد لهم من اعتراف انهم قد ودعوا حقبة من الحياة، بان أصبحت ماضيا، وماتت منهم دنيا، وتبقت أخرى في انتظار ما سيطرا لاحقا.
يبقى السؤال في هل ما رمت له الأيديولوجيا الاخوانية المنشطرة بين الجيش والدعم السريع سوف يمر على عكس ما اشتهت سفنها؟ ام سينتج ذلك جديدا على مستقبل المدنية السودانية بتأسيس ديمقراطي منظم، وعصري خلاق لنفسها وفق ثقافة سياسية جديدة وأسلوب حكم راشد وعادل؟ ام انها ستعود لاختراع ذات العجلة بكامل اعطابها القديمة، الموروثة؟

[email protected]


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.