عثمان ميرغي
أحد السودانيين اضطرته الظروف إلى اللجوء لدولة جنوب السودان.. مكث فيها عدة أشهر ثم سافر واستقر في دولة ثالثة.. حكى لي تجربته من لحظة مغادرته منزله في الخرطوم..
وكيف كان محظوظا بالوصول جوا الى جوبا.. في سياق حديثه أفلتت منه عبارة عفوية وهو يسرد لي التفاصيل منذ وصوله المطار.. قال لي ( يا أخي والله فعلا الناس ديل أهلنا عديل..)..
لو جاءت هذه الجملة في بيان حكومي..
أو حتى في مقال صحفي لربما كانت مجاملة رسمية أو إعلامية عابرة قد لا تلفت نظر أحد.. لكن لأنها هنا في سياق عفوي عن تجربة حقيقية لمواطن سوداني وهو يروي كيف وجد القلوب تستقبله قبل الوجوه.. فهي تقرأ بفهم مختلف.. من لحظة وصوله مطار جوبا إلى أن استقر فيها عدة أشهر تجول في شوارعها و تحدث مع المئات في الجيئة والذهاب..
لم يشعر فيها اطلاقا بأنه (غريب ديار.. غريب أهل) كما يغني الفنان إبراهيم عوض.
رغم ان العلاقات بين الجنوب والشمال في السودان قبل الانفصال سادتها فترات طويلة من الدم والدموع و الاضطراب أدى لغياب التنمية فترات طويلة ودمر حتى القليل المتوفر من البنى التحتية ..
إلا أن استقلال جنوب السودان لم يلد شعبا و أمة تحمل غبنا تجاه دولتها الأم.. على العكس تماما.. كان لي أصدقاء كثر من جنوب السودان لاحظت ان علاقتهم وتعاطفهم مع السودان زاد أكثر مما كان عليه قبل استقلال بلادهم.. ولي حكاوي كثيرة في ذلك لا يسعها المجال هنا..
و رغم ظان الأحداث الأخيرة التي عكرت صفو العلاقات الشعبية بين البلدين كانت مفجعة لكنها طارئة وعابرة.. رأينا كيف تصدى لها المسؤولون في حكومة جنوب السودان بكل شجاعة ورجاحة عقل..
والمحك في مثل هذه الأحداث ليس تجنبها فحسب.. بل وفي الطريقة التي تدار بها الأزمة لحين الخروج من نفقها.. ومن الانصاف أن أقول أن الحكومة والمسؤولين السودانيين أيضا تعاملو معها بحكمة و استيعاب لختمية ان لا تتأثر العلاقات.. وامتصاص الصدمات بمنتهى الكياسة والفطنة..
و رغم ان ظلال الازمة لا تزال مخيمة.. ونافخي الكير لا يزالون يأملون في مزيد من النيران بعدما جمعوا لها الحطب.. إلا أن الشعبين تجاوزا المحنة وستزوال نهائيا وتعود العلاقات أقوى ويبقى ما حدث عظة في ارشيف التاريخ حتى لا يتكرر..
و بصراحة.. و بعيدا عن هذه الأحداث الطارئة.. لا زلت عند قناعتي أن العلاقات السودانية-جنوب سودانية لم تجد ما يكفي العمل الرسمي و المجتمعي لتطويرها بما يحافظ على سرمدية استقرارها بل وعنفوانها الحيوي لمصلحة الشعبين..
المستوى الشعبي الذي تتمع به العلاقت حاليا ناتج لان البلدين حديثا عهد بالاستقلال.. ويكاد يكون شعب واحد انقسم في بلدين بينهما خط حدود وهمي لم يستطع فصل القلوب..
لكن مع مرور الزمن وتوالي الأجيال.. بالضرورة سيأتي جيل في البلدين لم يسمع كلاهما بالآخر الا عبر كتب التاريخ والروايات عن الماضي بخيره وشره.. هنا تنسحب عن المشهد كل الذكريات والمشاعر والعواطف وتصبح العلاقات بين الشعب أشبه بعلاقاتهما مع الفلبين.
من الحكمة الآن استثمار الوشائج الشعبية لتوطيد علاقات لا تبلى بل تقوى مع الزمن..
و بالتحديد علاقات المصالح المشتركة..
المشروعات الاقتصادية و الاستثمار وتنمية المدن الحدودية وسبل التواصل بين الشعبين من نقل بري ونهري وجوي.. و فتح الجسور الثقافية..
مركز البروفسير عبد الله الطيب في جوبا للآداب والفنون.. ومركز الدكتور جون قرنق في الخرطوم للدراسات الأفريقية.. على سبيل المثال لا الحصر..
فلتكن الأحداث الأخيرة شرارة الهام لأفق جديد في العلاقات السودانية- الجنوب سودانية.
نقلا عن -صحيفة التيار
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.