أمل محمد الحسن
عندما تم إعلان المجاعة في معسكر زمزم للنازحين في شمال دارفور؛ انتشرت صور الأطفال الذين يعانون سوء التغذية الحاد، ضلوع بارزة من جسد يكسوه الهزال، كأن العظم سيخرج في أية لحظة يشق ذلك الجلد المهترئ الشفاف، أما العيون الجاحظة الشاخصة فلا يمكنك النظر إليها لأكثر من لحظة، كأنها تنظر إلى الموت، وتنشر ظلاله في محيطها!
هذه حال أكثر من 4 ملايين طفل دون سن الخامسة في سودان الحرب، يعانون الجوع الشديد الذي تسبب لهم في سوء التغذية الحاد، الوسيط الذي يسلمهم للموت! فيما لا يجد الملايين الآخرون من الأطفال في أعمار مختلفة ما يسدون به رمقهم، فكل ما يحصلون عليه وجبة واحدة في اليوم، وربما لا شيء، ولا تجد أجسادهم المنهكة ملهاة باللعب من قعقعة البطون الفارغة!
تبحث الأمهات في بعض مناطق دارفور عن الحشرات خاصة الجراد لتضع شيئا في تلك الأفواه الجائعة، البعض يأكل صفق الشجر والبعض الآخر يتغذى على المحاصيل الجافة التي كانت تقدم سابقا للحيوانات!
تحولت حياة الأطفال في السودان إلى فيلم رعب كبير لا يستطيعون تبين تفاصيله، فهم لا يفهمون لماذا تلقي الطائرات تلك البراميل المتفجرة التي تحرق منازلهم وأهلهم فقط يعلمون أنه يجب عليهم الركض حال سمعوا صوت هدير محركات إحداها، اختفت تلك التلويحات البريئة للسماء، فما عادت طائراتها تحمل الأحبة الذين يجب التوقف لتوديعهم، بل باتت تجلب الموت في أبشع صورة!
القذائف التي تُطْلَق بدون تمييز للمدنيين هي أيضا باتت خطرا داهما يحاصر المناطق التي ما زال بها مواطنون لا يملكون ثمن الرحيل لمجهول آخر بعيدا عن هذه الأهوال!
أكثر من ١٧ مليون طفل هم خارج العملية التعليمية، بحسب منظمة اليونسيف، لم يعد الصباح يرتبط برن جرس الطابور الصباحي، ولم يعد العلم يرفرف في سلام وسط ساحات المدارس ليهتفوا له حتى تقفز عروق حلوقهم، لم يعد هناك كراس للرسم أو قلم، بل لم يعد هناك فراش ينامون عليه، ويحلمون بقصص خيالية، فملايين الأطفال الذين اضطروا للفرار مع أهلهم يسكنون في العراء ويلتحفون السماء تحت الهجير والمطر والعواصف لا ملابس تقي ولا حوائط تستر!
فمعظم الأسر اضطرت للركض بحياتها وحياة أطفالها بالملابس التي عليهم سيرا على الأقدام لمسافات تصل لأيام، في بعض الحالات يموت هؤلاء اليفع الذين لا طاقة لهم بمجابهة كل هذا الرهق.
المستقبل المظلم وغياب المدارس دفع عددا من الأطفال في سنوات المراهقة الأولى لحمل السلاح والانضمام إلى أحد طرفي النزاع، وظهرت صور كثيرة وفيديوهات لأطفال لم ينبت شعر شواربهم بعد؛ يقودون سيارات قتالية تتبع لقوات الدعم السريع، أو يظهرون في فيديوهات من داخل العمليات العسكرية، وهم يحملون بنادق يقترب حجمها من طولهم، وفي الناحية الأخرى تظهر فيديوهات لأطفال ينشدون أناشيد جهادية، ويربطون على جباههم شرائط الجهاديين بعضهم يحمل السلاح، لكنهم لم يظهروا في ساحات المعارك.
هكذا يتراوح حال الأطفال في السودان بين الجوع والمرض والعوز والمستقبل المجهول!
هناك أطفال كثر تحولوا لأيتام بفقد المعيل، أطفال آخرون انفصلوا عن أسرهم وسط الركض المجنون من الخطر يظهرون في مدن بعيدة عن مدنهم الأصلية لا يعرفون معلومات كافية عن ذويهم أو أرقام الهواتف لا بد أن البعض يتعرض للابتزاز والاستغلال الجنسي.
مشاهد الموت والدمار وعسف العسكر والعنف والقتل والدماء التي تعرض إليها هؤلاء الأطفال صنعت لديهم ذاكرة مؤلمة عن الحياة لا أعتقد بأنهم يملكون القدرة على التشافي منها يوما، ووسط انعدام أساسيات الحياة بات الحديث عن العلاج النفسي مجرد رفاهية بعيدة المنال.
واقع الصراع العنيف الذي اجتاح معظم الولايات السودانية؛ منع فرصة تلقي اللقاحات الضرورية للمواليد والأطفال، فعادت الأمراض التي قضى عليها العالم منذ عشرات السنين للظهور، ومع التردي البيئي وانتشار الجثث التي لم تجد قبرا يسترها مع استهداف طرفي الحرب لمصادر المياه النظيفة والكهرباء إلى جانب المخلفات الحربية، خلق بيئة مواتية لانتشار الأمراض الجديدة، فمات الأطفال بالكوليرا والحميات، وانتشرت أمراض غريبة في العيون!
الأطفال المحظوظون الذين استطاعت أسرهم الفرار خارج السودان يعانون صدمات نفسية كبيرة فبين ليلة وضحاها غادروا منازلهم التي يعتادونها وفارقوا أصدقاءهم، وانتقلوا إلى بيئات جديدة ومدارس جديدة ومعلمين جدد، وجدوا أنفسهم في مقابل تغييرات هائلة لا تستطيع عقولهم التعامل معها وأيضا يعتبر العلاج النفسي رفاهية لأغلب الأسر التي اضطرت للانتقال إلى دول جديدة ترتفع فيها متطلبات الحياة.
المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع محكوم على طلاب المرحلة الثانوية؛ خاصة الذين يريدون الالتحاق بالجامعة بتوقف التعليم؛ لأن الدولة لن تعد مراكز امتحانات فيها، وعندما حاول أحد الطلاب الانتقال من مناطق سيطرة الدعم السريع بولاية كردفان مدينة النهود ليحاول الجلوس لامتحان الشهادة السودانية قُبِض عليه؛ لأنه من “حواضن” الدعم السريع، وحكم عليه بالسجن ٥ أعوام كانت كافية لأن يتخرج من الجامعة، ويغير الظروف التي لم يخترها!
لا يعرف الأطفال لماذا يتقاتل هؤلاء العسكريون، ويدمرون منازلهم ويقتلون أهلهم؟ لماذا تقفل المدارس؟ ولماذا مات أحد الأصدقاء مقطعا لأشلاء؟ لا يفهمون أين ذهب الطعام والشراب ولماذا تبكي الأمهات دون توقف؟ الكثير من الأسئلة التي لا يملك حتى الأهل الإجابة عليها.
أما السؤال الأكبر الذي يعجز الجميع عن الرد عليه متى يتوقف كل هذا الجنون الذي يدفع تكاليفه ملايين الأطفال، ويتحمل تبعاته وطن سيفقد السواعد التي ستبنيه غدا؛ لأنها اليوم حرمت من الطعام والتعليم، مصيرهم الموت والجهل ما يرجح استمرار دوائر الصراعات المسلحة؛ لأن الأطفال سيرثون عبئا ثقيلا متمثلا في الغبائن القبلية، وتطفو روح الانتقام التي ستلقيهم في دوامات حروب أهلية لا متناهية.
نقلا عن الشرق القطرية
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.