المجتمع الدولي ومتلازمة المطامع

جمال محمد إبراهيم
(1)

فيما تجتاح العالم أزمات سياسية طاحنة، رأينا بأمّهات عيوننا أحد تجلياتها ماثلة أمامنا، فإنّ حالةً من التشاؤم الحذر، تبدو أكثر واقعية من أيّة اجتهادات تدعو إلى التفـاؤل. هـل احتـدام الحروب في السّاحة  العالمية في العقـد الثالث من الألفية الثالثة يؤكِّد مزاعم دخول العالم إلى مرحلة تُهدّد بنشوب حربٍ عالميةٍ ثالثة؟

لو أمعنّا النظر في صورة تلك السّاحة الدولية، والتي صارت تعرف بهذه الصِّـفـة في أعقاب انطواء سنوات الحرب العالمية الثانيـة، بدا العالم مبتـدراً، منـذ عام 1945، حقـبة أجمعتْ معظم شعوبه ودوله على توافقٍ جماعي، جعـله أكثر تماسـكاً ككـيانٍ واحد متّحـد يحفظ أمـانه، ويعزّز سلامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وها نحـن بعـد نحـو 80 عاماً من تلـك الصورة الوردية للسّاحة الدولية، نشــهد الآن حالـها، وهــو في تضعضعٍ بائن وعجــزٍ مُطبق، يستدعي إعادة النظر ملياً في مسلّمات ذلك الأمان.

(2)

غير أن الرّكون إلى حجّـة واحدة يرفع إصبع الإدانة إلى الأمم المتحدة، تلك المُناط بها حفظ السلم والأمن الدوليين في الساحة الدولية، باعتبارها المسؤول الأوّل عن هذا التضعضع وذلك العجــز، لا يبدو ركـوناً منطقياً، بل تهـزمه الوقائع الماثلة في تلـك السّـاحة. إذ ما شهده العقد الأخير من القـرن العشرين مِن اضطرابٍ في حقائق المجتمع الدولي جـاء إثر زوال الاتحاد السوفييتي الذي كان يحفظ توازناً مع القوى الكبرى المقـابلة التي تمثلها أوروبا والولايات المتحدة. كان ذلـك المُمهّد الأوّل للواقع الخَطِـر الذي يشهده العالم في سنوات الحقبة الثالثة، وهو في ألفيته الثالثة أيضاً. إنْ كان ذلك أمرٌ سياسي فثمة عوامل أخرى ألقتْ بظلالها الكثيفة على بروز ذلك الواقع الخطِـر. لم يكن تباين الرؤى السياسية حول المبادئ والقيم التي سادتْ، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وحـدها سبب تلك الخلافات والاضطرابات السياسية. ثمّة مطامع باتت تتحكّم في سلوكيات المجتمع الدولي، ومصالح يتسابق لامتلاكها الممسكون بأموره.

(3)

ساد الهدوءُ النسبي السّاحة الدولية، وعلى قلّة ما وقع من حروبٍ في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم يصل إلى درجـة حرب أربعينات الـقـرن الماضي، لكن الرؤى والمواقف تمايزت بين شرقٍ وغرب، وبين فقراءٍ وأثرياء، في أجـواءٍ ســمّاها الأكاديميون “حقبة الحرب الباردة”. ومثلما أشــرنا، في السّـطور السّـابقة، فإنّ عالـماً اتحدت إرادتـه لتجنّب وقوع حرب، مثل الحرب العالمية الثانيـة، وأنشأ لأجل ذلـك نظاماً دولياً أساسُه الأمم المتحـدة لحفظ السِّـلم والأمـن الدولييـن، فإنه من الحيْـف رمي تهـمــة العجـز والفشل على المنظمات الأممية، وفي المقدّمة الأمم المتحدة وحـدها. في الحقـيقة أنّ أســباباً أخرى أدّتْ إلى تراجع تلك المنظمات عن تأدية أدوارها على الوجه الأكمل.

لعلّ العالم في حاجة حقيقية لهيكلة مبتكرة، فيـبعـد العصابيين من قيادة شعوبهم، فـقـد تكاثروا في آسيا وأوروبا وأميركا وفي أفريقـيا وأميركا اللاتينية

قبل أن ننظر في تلك الأسباب الأخرى، لنا أن نقرّ بأن ما توافق عليه المجـتمع الدّولي لحفظ الأمن والاستقرار، لم يُخرج للعالم منظومة مثالية للقيام بتلك الأدوار. لقد شاب نظام الأمم المتحدة، وما تفرع عنها من كيانات، ما أقعدها عن ضبط أحوال العالم بالصورة المثالية المطلوبة. ولقد شابت تلكز المنظومة الدولية وكياناتها التي تفرّعت عنها لرعاية شؤون العالم الاقتصادية والعسكرية والتجارية والاجتماعية والثقافية نواقص شتّى، ولكن مسيرها تواصل بتوافق الحدّ الأدنى، فيما ظلّ التحدّي لإصلاحها قائماً يراوح مكانه.

(4)

وفي عودة إلى التاريخ القريب، فإنّ إدانة العالم ظاهرة الكولونيالية الاستعمارية، ثمّ نيل شعوب كثيرة حقوقها في تقرير مصائرها، لكن القوى الكولونيالية السابقة أضمرت تلكؤاً، وربما هي مقاومة مستترة، أوجدت أزمات عديدة، وكانت القارّة الأفريقـية الأكثر تضرّراً ومعاناة.

برغم نجاح محدود للأمم المتحدة في الحرب الكورية، لكن أزمة الكونغو شكلت اختباراً حقيقياً لمصداقية الأمم المتحدة، يوم تواطأت فيها القوى الكبرى مع بلجيكا المستعمر السابق، لوأد حقّ تقرير المصير والاستقلال لشعب ذلك البلد الأفريقي الغني بالثروات. ضعفت وقتها مصداقية الأمم المتحدة يوم اغتيل أمينها العام، داغ همرشولد، وهو في خضم تلك الأزمة. وظل الكونغو يرزح تحـت ويلات مطامع الغرباء في تلكم الثروات… ذلك مثل تاريخي واحد، لكن قصة المطامع لم تنته عنده.

لنا أن نقرّ بأن ما توافق الأمن والاستقرار لم يُخرج للعالم منظومة مثالية للقيام بتلك الأدوار

لم تكف ظاهرة الكولونيالية الاستعمارية عن البروز، لعلّ أول ما يلمح إلى نيات عودتها مجدداً إلصاق صفة التخلف عن استحياء بإضفاء نعت يميّز تلك البلدان التي نالت استقلالها عن تلك القوى الكولونيالية: أنها بـلـدان “عالم ثالـث”، أمّـا القـوى الاستعمارية السابقة فيشار إليها باستحياء لا يعلن أنها بلدان “عالمٍ أول”.

(5)

خلاصة الأمر أنَّ إرادة الأقوياء في العالم على ضعفائه لم تزل تتفاعل في السرِّ وفي العلانية. ها نحن على مشارف الذكرى السبعين لأوّل مؤتمر جمع أطراف ما سموه “العالم الثالث”، عام التقى فيه زعماؤه في باندونغ في إندونيسيا عام 1955، بما عرف تاريخياً بكتلة عدم الانحياز. ولدت إرادة المجتمع الدولي لضمان تضامن أطرافه وتماسك تعاونه كسيحة، فور خروج الفـقـراء ببلدانهم وتخلصهم من قيود الاستعمار.

لكلِّ مُبصرٍ يرى، ذلك هو ما شكّلَ ما أسميه اختصاراً “متلازمة المطامع”، وهي التي غـذّتْ إرادة السيطرة الهوجاء من جديد لأقــوياء في العالم يستقوون على ضعفائه. لك أن تُمعن النظر مرّتين لتدرك أنّ حرب روسيا ضد أوكرانيا تغذّيها مطامع روسيا في ثروات جارتها. وفي السودان حربٌ تزيد أوار نيرانها أصابع أجنبية طامعة، ثمّ حـرب إسـرائيل تقتل الرجال والنساء والأطفال، وهي لا تزال طامعة في إبادة ما بقيَ من الشعب الفلسطيني المشرّد منذ 76 عامـاً. فمن تُرى يأبه لانحـدار العالم إلى هاويةٍ لا قرار لها، ثم يذهب بعضهم إلى اتهام الأمم المتحدة بالعجز عن حفظ الأمن والسلم الدوليين؟

(6)

لكأنّ ذلك كله لا يكفي ليدحرج العالم إلى تلك الهاوية. تنظر حـولك لترى ما آلـتْ إليـه زعامات العالم وقياداته في كلِّ بلدانه التي يقولون عنها عالماً أول وثان وثالثاً. لن يعجزك أنْ ترى عندهم من ضعفٍ في القدرات بائن، وغياب للحكمة لا يخفى، وازدراء معلن بالأمم المتحدة وبأذرعها، وضيق بإصلاح ترتجيـهِ شعوب العالم.

إرادة الأقوياء في العالم على ضعفائه لم تزل تتفاعل في السرِّ وفي العلانية.

تنظر بعينيك إلى ثورة عظيمة وقف العالم أمامها مشدوهاً، قام بها شـعب السّــودان على أسوأ نظامٍ حكم تسلط على بلادهم 30 عاماً عجافاً، ثم يغيب ذكرها عن أنظار المجتمع الدولي وشـعبها جرّاء حربِ العبث والأهواء الشيطانية التي أشعلها وكلاء الأصابع الأجنبية الطامعة، في ظاهرة غير مسبوقة، أفضت إلى نزوحٍ الملايين وتقتيل الآلاف ودمار كامل لمقدرات البلاد.

(7)

لا تبدو الصورة كاملة برغم ما أبنت لك… لك أن تنظر إلى أقوى دولة في عالمٍ يتداعى، لترى من يتولّى أمورها رجلٌ عصابي، انتخبه من توهّموه حكيماً قادراً، لكنه أناني النظرة منفعل لا يعنيه العالم في شيء، إلا أن تكون الولايات المتحدة هي الأقوى في العالم. ترامب أول رئيس يتولّى إدارة الدولة الأقوى، وهو لا يملك، كإنسانٍ أو كسياسي، شهادة حسن سير وسلوك، ويريد أن يوقف إحدى حروب المطامع في 24 ساعة. ذلك العصابي الذي سـيبني سياجاً عازلاً بيـن بلاده وجيرانها، والذي يزدري بالمنظمات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، ولا يعـنـيـهِ أمن المجتمع الدولي ولا سـلامه أو اقتصاده أو منـاخه أو ثقافـته.

لربما إن أسأنا الظن قد نتوقع من هذا الرئيس الناقم على قواعد المجتمع الدولي والمستفزّ لأسس تعاون دوله، أنْ يتجـرّأ بإخراج المنظمة الدولية من عرينها التاريخي.

لعلّ العالم في حاجة حقيقية لهيكلة مبتكرة، فيـبعـد العصابيين من قيادة شعوبهم، فـقـد تكاثروا في آسيا وأوروبا وأميركا وفي أفريقـيا وأميركا اللاتينية. يتساءل أيّ عاقلٍ: مِن أينَ جاء هؤلاء الذين يقـودون العالم إلى حَتـفـه، نماذج من أمثال ترامب ونتنياهو وأشـــباههم كثرٌ في الشرق الاوسط وفي القارّة
الأفريقـية.

 
العربي الجديد
لندن

 


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.