مصعب الريح رشاش
Rushash72@ gmail.com
أذكر أنه في بداية عملنا بالخدمة المدنية قبل نحو عقدين من الزمان , كانت لائحة البدلات و المنح مريبة إلى حد بعيد . كنا هناك تباين كبير في قيمة المنح و البدلات قائم على أساس النوع . فمثلاً إذا كانت منحة تجهيز الأطفال للمدارس تمنح للذكور بواقع مرتب شهرين إجماليين , فإن الإناث كن يمنحن مرتب شهر واحد . و هكذا كان الأمر يجري على بقية المنح و البدلات . هل يمكن تصور أن ذلك كان يحدث في هذا البلد و أنت حل بهذا البلد ؟
ظل ذلك الظلم مستمراً لسنوات طويلة قبل أن ننضم إلى الخدمة العامة و لم نجد أحد يحتج أو يتساءل لماذا كان يجري ذلك التمييز . كان الأمر عادياً رغم أن الإناث كن يعملن بذات الشروط و المؤهلات التي يعمل بها الذكور . و كن ينتظمن مع الذكور في ذات السلم و الوصف الوظيفيين . أي كن يؤدين ذات المهام التي يؤديها الذكور . بل كانت الموظفات أكثر التزاماً و انضباطاً و انجازاً . فبينما كان الذكور يتململون و يخرجون كثيراً من العمل أثناء الدوام لقضاء حاجات خاصة , كانت زميلاتنا يلتزمن مكاتبهن و لا تقوم الواحدة منهن من مقعدها إلا للضرورة القصوى حتى نهاية دوام العمل الرسمي .
بشكل مفاجئ , و أظن أن الأمر حدث نتيجة ضغوط المنظمات الحقوقية الدولية , ألغيت تلك اللوائح و تم توحيد المنح و البدلات بين الجنسين . لم يقدم أي اعتذار رسمي و لا تعويض أو مجرد تفسير لأخواتنا الإناث عن الظلم الذي جرى بحقهن حتى يوم الناس هذا .
إن الواقع الإنساني الذي تعيشه مجتمعاتنا اليوم ينضوي على مظالم و انتهاكات كثيرة لمبادئ العدالة و المساواة . بيد أن العادة و التعود يجعلاننا لا نرى ذلك الخلل و لا نستشعر وجوده . و ما هو أسوأ من ذلك أننا كثيراً ما ندافع عن أوضاعنا الإجتماعية الموروثة بكل ما أوتينا من قوة بسبب أربعة دوافع رئيسية , التحيز , التعصب , التخلف و العنصرية . و نرفض التزحزح عن مواقفنا و نحارب التغيير بكل شراسة . بل ونهاجم المجتمعات الأخرى التي تدين بمنظومات عدلية و تنتظم في عقد اجتماعي يختلف عما نحن عليه .
فنحن مثلاً نرفض و نشجب و ندين النظام القانوني الذي يقضي بتدخل الدولة في تربية الأطفال . ذلك النظام الذي يحاسب الآباء عند تصرفهم مع أبنائهم بطريقة فيها انتهاك لحقوقهم . و هذا موقف خطير للغاية . و ذلك تأسيساً على منطق بسيط , هو أنه ليس كل الآباء مؤهلين أخلاقياً و قانونياً لتربية الأطفال حتى لو كانوا أبناءهم .
و هناك حقيقة أخرى لا نضع لها اعتباراً و هي أن الآباء لا يملكون أبناءهم في الواقع ليكون لهم الحق في التصرف فيهم كيفما شاؤوا . و إنما الأبناء كينونات قائمة بذاتها . لهم حقوقهم الخاصة التي قد لا يستوعبها أو يتجاوزها بعض الآباء الذين يعانون من الجهل , الإدمان , التطرف , المشكلات النفسية و غير ذلك من الأمراض الخطيرة التي تحرمهم من فرصة أن يكونوا آباء صالحين مما يجعل حياة أطفالهم على المحك . و هنا يتوجب تدخل الدولة لأداء مهمة الرعاية لأن الدولة هي ولي الأمر الأعلى في المجتمع . و هي وكيل ينوب عن الأفراد في إدارة شؤونهم .
الأسبوع الماضي قام مواطن ليبي باصطحاب أطفاله السبعة إلى منطقة صحراوية نائية و هناك قام بقتلهم جميعاُ ثم انتحر . و في ذات الأيام وجد المواطنون في مصر طفلتين شقيقتين بين الحياة و الموت و بقربهما شقيقهما الأصغر ميتاً . ثم اتضح فيما بعد أن لهم شقيق مفقود . و اختفى والدهم المتهم بالتورط في الكارثة التي حلت بالأطفال . و يعتقد أنه فعل ذلك انتقاماُ من والدتهم التي اختفلت معه و تركت المنزل منذ فترة بينما احتفظ الوالد بالأطفال .
الأطفال ينتشرون الآن في أسواقنا و مصانعنا و مواقع العمل المختلفة في منظر يبدو مألوفاُ لدينا . يعملون بجد طوال ساعات النهار و حتى بالليل . هذا واقع استثنائي غريب لا نراه في الأمم التي قطعت شوطاُ بعيداُ في مضمار التقدم و التحضر . عشرات آلآف الأطفال تنتهك طفولتهم , يحرمون من الرعاية , اللعب , البراءة بل و قاعات الدراسة . و يستبدلون كل تلك الحقوق الطبيعية بالعمل المضني الشاق و التواجد في بيئات متوحشة لا شيئ يعصمهم فيها من التنمر , الشتم , الألفاظ البذيئة , بل و التحرش الجنسي و الأذى الجسدي و النفسي العميق .
الحظ فقط هو الذي يحدد مصير و مستقبل الأطفال في مجتمعاتنا . فالمحظوظون هم من ينشأوون في كنف عائلات واعية متفهمة جيدة الدخل . و لذلك من العدالة أن يتطور المناخ القانوني لحماية الفئات الهشة و المعرضة في المجتمعات من أطفال و نساء و شيوخ . و يجب أن تتدخل الدولة لحمايتهم و من أجل توفير فرص متكافئة للأطفال حتى لا يصبحوا العوبة في يد الحظ .
المناخ الحضاري المتجدد يخلق ظروفاً اجتماعية تتغير و تتبدل مع مرور الوقت . و هذا ما يجعل المجتمعات في حاجة إلى تطوير البيئة القانونية و توسيع مساحات الحقوق من أجل المواكبة و الإرتقاء بالإنسانية إلى آفاق أرحب .
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.




