جعفر عباس
الابتعاد عن الوطن طلبًا للرزق أو السلامة (اللجوء السياسي) لا يزيد الإنسان السوي إلا ارتباطًا بالوطن، وقد بعثرتنا حكومات الخيبة في كل وادٍ، ولكن عواطف المغتربين نحو الوطن لم تتبعثر. غير أن هناك بضعة ملايين من السودانيين دون الأربعين، وُلدوا أو نشأوا في بلاد طيرها عجمي أو عربي، وهؤلاء معذورون إذا لم يشعروا بأن هناك حبلًا سريًا قويًا يربطهم بالوطن كما آباؤهم وأمهاتهم، فالأوطان جميلة بأهلها وليس بشجرها ونسيمها وترابها. ومن وُلدوا وقضوا العمر كله أو قسمًا كبيرًا منه خارج الوطن يكونون بالضرورة محرومين من روابط اجتماعية قوية داخل الوطن الأم، فليس لديهم فيه رفاق طفولة لعبوا معهم في الحي، أو زملاء دراسة، وهكذا. وكلما زاروا الوطن تحركوا في الغالب فقط داخل الدائرة العائلية الضيقة.
وُلد أكبر أبنائي في السودان وغادره وعمره سنة واحدة، والتي تليه وُلدت في القاهرة، والتي تليها وُلدت في أبو ظبي، وآخر العنقود وُلد في قطر (جاء من بغداد وفي كل بلد أنجب أولادًا: بعضهم عُبّاد، وبعضهم زُهّاد، وبعضهم جارين ساكنين الزاد.. السراي السراي. بعد إذن الطريقة القادرية العركية). وانظر – مثلًا – تجربة أكبر أبنائي: بدأ تعليمه في أبو ظبي ثم واصل في قطر فبريطانيا ثم قطر ثم نيوزيلندا ثم أستراليا!! هل من عتب عليه لأنه ليس لديه أصدقاء سودانيون كُثر؟ وأصغر أبنائي تخرج في الجامعة رفقة خمسة زملاء من جنسيات مختلفة ظلوا معًا منذ مرحلة الروضة، ولهذا فله أصدقاء من مختلف البلدان، ولا تقتصر علاقاته على من هم من السودان.
العيش في المهاجر يغرس في معظم الأبناء الإحساس بـ«الخصوصية» ابتداءً من «دي أوضتي»، وأكثر ما يضايقهم الحمام المشترك المستخدم من قبل كثيرين، وفي معظم البيوت السودانية هناك حمام واحد (وهناك ملايين البيوت بلا حمامات أصلًا)، ويتضايق أبناء المغتربين من الوقوف في طابور الحمام الصباحي في بيت الجد أو الجدة خلال زيارتهم للسودان (هذا غير التذمر من وجود أوعية البلاستيك والجرادل داخل كل حمام لحفظ الماء لحالات الطوارئ، فما بالك وقد صار الشهر كله حالة طوارئ؟). أما الـ«دبليو سي» الحفرة/ البئر، فخلوها مستورة. وهكذا وضعت في الاعتبار حكاية «دي أوضتي» عند تشييد بيت في بحري (أبنائي لا يقولون «غرفة» بل «أوضة»، ورغم أنهم خليجيون بالتجنس إلا أنهم لا يتكلمون إلا بالعامية السودانية، ولا يستخدمون من المفردات الخليجية سوى: «سيدا» بمعنى طوالي – دوغري؛ و«دوّار» وهو ما نسميه صينية؛ و«سنترا» وهي فاكهة اليوسفي).
ما بين عامي 1995 و2017 غادر السودان مليونان ونيف من مواطنيه طلبًا للرزق، ويُقدّر عدد سودانيي الشتات بأكثر من 6 ملايين، ومئات الآلاف منهم صاروا سودانيين «سابقًا» بعد حصولهم على جنسيات أمريكية وأوروبية، ولهذا فالملايين من ذوي الجينات السودانية سيصبحون بمرور الزمن غرباء عن تلك الجينات، وهذا فقد جلل، لبلد حدادي مدادي فشلنا في بنائه جماعيًا وفرديًا.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.