جعفر عباس تكتب: بلا طموح بلا بطيخ

جعفر عباس

لم يعد لي منذ سنوات طموح شخصي: لا أريد وظيفة جديدة، ولا مالًا جديدًا، ولا ترقية جديدة، ولا زوجة جديدة. وليس ذلك عن عجز أو يأس، بل عن اقتناع شخصي بأنني “عملت العليَّ”: اجتهدت وكافحت، ووقعت وقمت، وحققت لنفسي وأسرتي أمورًا لم أكن أحلم بها. ومن حقي أن أستريح، ومع ذلك ما زلت أغذي وأشجع طموحات من يهمني أمرهم.

ومن ثم لم يعد هناك ما يحملني على الشكوى والتذمر، فقد مدَّ الله في أيامي، وأديت الأمانة تجاه عيالي حتى دخلوا الحياة العملية. وأذكر كيف كانت سعادتي عارمة وغامرة عندما عاد أصغر عيالي، لؤي، إلى قطر من بلاد تموت من البرد حيتانها، حاملًا شهادته الجامعية، رافضًا انتظار حفل التخرج لأنه كان مشتاقًا للأسرة وللدوحة، قائلًا: «خليهم يرسلوا الشهادة بالبريد أو بالحمام الزاجل». قلت له: طالع على أبوك الذي حضر حفل تخرجه من الجامعة وتسلَّم البكالوريوس في حفل بهيج، ثم ضاعت منه الشهادة في تلك الليلة نفسها وسط هوجة فرحة أصدقائي وزغاريد قريباتي وهتافهن: «يا سلام يا جافر (جعفر)، رفأت (رفعت) راسنا آليًا (عاليًا).. ينسر (ينصر) دينك!!».

يا ما أنت كريم يا رب، فقد عشت وسعدت بحمل الأحفاد، وكما قالت سيدة عجوز: «لو كنت أعرف متعة الأحفاد لأتيت بهم قبل عيالي». عشت حياة مليئة بالمطبات، ولكنني وقعت ثم نهضت، فقدت عملي ومصدر رزقي ثم فتح الله أمامي أبوابًا أوسع. وكانت لحظات السعد في حياتي أكثر من لحظات البؤس. يومًا ما كان حلم حياتي أن أتناول نصف فرخة بمفردي، واليوم أفضل الفول على الفراخ، وحصل تعارف وتآلف بيني وبين الكرز والكمثرى والخوخ والمشمش والكيوي والنكتارين، وهي فواكه لم أسمع بها إلا بعد أن تجاوزت الثلاثين، ومع ذلك ما زلت وفيًّا للبطيخ والشمام لأنني أجد فيهما رائحة مدينة كوستي، وللتمر لأنه يسافر بي إلى بدين.

وصار عندي قمصان بأشكال وألوان، بعدما طلقت سوق سعد قشرة الذي كنت أشتري منه كسوتي كطالب جامعي ثم كمدرس في المرحلة الثانوية. وعندي اليوم آيفون عجيب، وكانت أول مرة استخدمت فيها الهاتف وأنا طالب في الصف الثالث الثانوي عندما تم استدعائي إلى مكتب الناظر حيث تلقيت مكالمة بأن جدتي لأمي توفيت، وكانت فرحتي باستخدام الهاتف أقوى من حزني على جدتي، وظللت أتباهى وأتنبر بتلك المكالمة سنين عددًا.

كان حلم صباي أن «أركب» اللوري في العيد في كرمة، بل كتبت في موضوع إنشاء في المرحلة الابتدائية أن حلم حياتي أن أصبح سائق لوري يشق الصحاري، واليوم عندي سيارة خاصة وبيت خاص وركبت البوينغ والإيرباص ذات الطابقين، وما زلت أتباهى بامتلاكي حمارًا وأنا تلميذ في الابتدائي، ثم دراجة (عجلة) اشتريتها بثلاثة جنيهات كاش (سمحة المقدرة)، ثم سيارة مجهولة النسب لا يعرف أحد صانعها ولا ماركتها.

أحس بشوق إلى بيتنا الطيني في بدين حيث كنا نصحو على صياح الديك وثغاء الغنم، وما زلت أحن إلى إيقاع المطر على سقف الزنك في بيتنا بكوستي.

لم أخرج من سنوات الاغتراب بالكثير من الإنجازات المادية، ولكنني خرجت منها بثروة ضخمة هم عيالي الأربعة، ولم يعد هناك ما يقض منامي ويعكر صفو صحوتي سوى حال الأحباب من الأهل والملايين من بني وبنات وطني، وهم اليوم في حال شتات بعد أن تعرض الوطن الذي كنا نحلم يومًا ببنائه للدمار والخراب، وبإذن الله غدًا نعود لوطن أسمر موشح بالورود.


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *