منوعات – شبكة_الخبر – من ضفاف النيل في مدينة بربر شمال الخرطوم، بزغ نجم شاعرٍ نبت من شظف العيش، وصاغ من الحزن مدادًا للقصيدة. عبد الرحمن محمد حسن مكاوي، المولود عام 1940، نشأ يتيم الأب، فتولّت جدته لأمه تربيته، تلك السيدة التي حملت لقب “المراد لله”، وهو لقب اجتمع فيه الصبر والرضا والتصوف، وكانت تتوسد الهمّ وتلتحف الحنية، فغرسَت في حفيدها رقّة الشعور، وشواغل الأرواح، وجعلت من المدائح غذاء وجدانه الأول.
كانت جدته “المراد لله” تردد أبياتها بصوتٍ مشحون بالإيمان والصبر:
حواء بيتا بقى الطريق
وحالا يغني عن السؤال
متلفحة الحنية شال
متوسدة الهم والنعال
وقبال تأشر لي تعال
في عيونا حبست الدمع
بين الرموش قدامي سال
هذه الملامح الوجدانية المبكرة تشكلت في قصيدة الشاعر “أيتام الزمن”، وفيها تجلّت خبرة الفقد، وعزيمة الطين المجبول على الرجاء.
كتب مكاوي الشعر منذ نعومة أظفاره، ولكن قصائده لم تعرف طريقها إلى الشهرة إلا حين تغنّى بها كبار المطربين، فكان له مع حمد الريح ثنائية فريدة أخرجت أغنيات ستبقى في وجدان السودانيين، منها:
“خليتني لي عيشة الشقى”
“بريدك يا شقاء الأيام”
“أحلى منك قايله بلقى”
وكانت قصيدة “أصبحتو كيف” آخر ما تغنّى به حمد الريح من كلمات مكاوي، وهي القصيدة التي حملت عنوان ديوانه الشعري الأخير.
لم تقتصر رحلته الغنائية على الريح، بل شارك مكاوي في صياغة الوجدان السوداني مع مطربين آخرين:
– النور الجيلاني في: “يا القدامنا ما أنت”
– هاشم ميرغني في: “ما زمان بتقول عيونك”
– مصطفى سيد أحمد في: “تقول لي الفراق مكتوب”
– محمد الأمين في: “هي إلا الغربة نتغرب”
– أنس العاقب في: “يا بلدينا”
– هادية طلسم في: “روّح معاك عمر الهناء”
ورغم هذا الأثر، لم يكن مكاوي من أهل الإعلام ولا من هواة الظهور، وقد قال ذات مرة في لقاء تلفزيوني نادر إن انشغاله بكسب الرزق كان السبب في قلة إنتاجه الشعري وابتعاده عن الساحة.
وقد وصفه النقاد بـ”شاعر الغلابة”، لما حملته قصائده في سنواته الأخيرة من صوت الناس البسطاء، ومعاناتهم، وأحلامهم، حتى كتب أحد النقاد عند قراءته لديوان “أصبحتو كيف”:
“تجد مجموعة قصائد غنائية غاصت بعيداً في أعماق الحياة بكل جوانبها المضيئة والمظلمة، المتشائمة والمتفائلة. الحلم والمعاناة. والأمل. والشكوى.”
وقد عرفت قصيدة “شقاء الأيام” جدلًا واسعًا في ثمانينات القرن الماضي، حين تردّد حمد الريح في أدائها خشية أن يجلب مضمونها له “الشقاء”، فأداها مصطفى سيد أحمد بدلًا عنه، ثم عاد الريح لاحقًا ليطلب غناءها، فحدث خلاف بينه وبين الملحن يوسف السماني ومصطفى، لكن مكاوي رجّح كفة الريح، لعلاقة عمل طويلة تربطهما.
في هذه القصيدة، كشف مكاوي عن طاقة وجدانية فريدة:
شال هم فرقتك قلبي
وكيف لما الفراق يحصل
إن شاء الله ما يحصل
بريدك يا شقى الأيام
كان بيك الحبيب يسعد
واسهر نجمي عز الليل
بعد روح صباحك جد
وابكي معاي عيون أحباب
عشان أسف الدموع يشهد
لا كان الفراق منية
ولا فرقة عيونك وعد
كيف كيف كيف لما الفراق يحصل؟
مجبور قلبي يتعلم
بعد ولف عليك يقسى
عشان لو لحظة تنساك
عيون ما اتعلمت تنسى
أنا الفارقتو مرساك
قبل أشواقي ما ترسى
أصاحِب بكره كيف العيد
وعايش فرقتك هسي؟
معقول قلبي بس ينسى؟
وعلى مستوى الحب الشخصي، كانت تجربة فراق قديمة مع فتاة تركته دون وداع، سببًا في ميلاد واحدة من أروع أغاني حمد الريح، من كلمات مكاوي:
أحلى منك قايلة بلقى
ولا غيرك انتي ببقى
انتي أفراحي البعيشها
غير مكتوب لي أشقى
حبك انتي علي كفاية
انتي يا أملي ومناي
عمري ما حسيت بغربة
لما أشوف عينيك معاي
سكة غير دربك تفتر
ودنيا غير دنياك تودر
غيمة والله عيونك انتي
ده الغريب في الصيف تخضر
وسيرتك انتي علي حبيبة
لا شبه صادفته زيك
ولا عيون منك قريبة
رحل عبد الرحمن مكاوي في 18 ديسمبر 2019، عن عمر ناهز 71 عامًا، ودُفن في مقابر البنداري بحري، بعد أن ترك خلفه نبعًا من الشعر المضيء بالمحبة، والمتخم بالحياة. لم يكن مجرد شاعر غنائي، بل كان صوتًا إنسانيًا ظلّ وفيًّا لمراياه الداخلية، عابرًا في شوارع الوجدان، صوفيًا في الحس، دنيويًا في الكلمة، نبيلاً كجدةٍ تهمس للعابرين: “المراد لله”.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.