بقلم: خالد سعد
صدرت الأسبوع الماضي عن التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود)، رؤية سياسية (وثيقة لإنهاء الحروب واستعادة الثورة وتأسيس الدولة).
وهي مبادرة تأسيسية جديرة بالنظر والنقاش، لأنها تطرح تصورا للخروج من الأزمة الوطنية عبر إنهاء الحرب، وبناء السلام عبر أسس جديدة.
في البدء، لا بد من أن نتخلص من المواقف المسبقة عندما نحلل رؤى لتنظيمات سياسية، فالبلاد تمر بمرحلة كارثية تتطلب النظر إلى كافة المبادرات والمساهمات الوطنية بعين النقد المسؤول، ولا يجب أن نتعامل معها بمنطق التخوين والتجريم المسبق.
ولهذا تأتي هذه الملاحظات المحدودة في سياق الإسهام في نقاش جاد وفهم خيارات الخروج من هذه الورطة الوطنية.
من المهم في هذا الصدد، الإشارة إلى أن رؤية (صمود) تمثل واحدة من المبادرات المدنية السياسية الضرورية، لأنها تعبر عن قوى سياسية معارضة للحرب من الأساس، ومغايرة للأجندة السياسية التي تتبناها حاليا القوى النشطة في الحرب، وفي الواقع لا يمكن تجاهل بأنها تستهدف مواجهة احتكار أي طرف آخر لمسار التسوية إذا حدثت لإنهاء الحرب.
تتضمن المبادرة رؤى حول المجالات السياسية والإنسانية والعسكرية، وفي تقديري فهي تقدم أجوبة أولية وليست نهائية.
هذه الوثيقة تطرح رؤى نظرية عن الحروب السابقة والحرب الراهنة، لكن تربطها بالمواجهة بين قوى ثورة 2018م، وبين نظام المؤتمر الوطني، في حين أن الحرب في السودان ذات جذور سابقة لنظام المؤتمر الوطني.
ومع ذلك، ثمة تحول جديد في رؤية هذه القوى السياسية المدنية، فالوثيقة تطرح معايير لإنهاء الحرب لا تقوم على المحاصصة، وإنما على بناء السلام العادل والمستدام، وعززت هذا الأمر بدعوة إلى حوار سوداني -سوداني.
هذه الأطروحة تحديدا جاءت في وثيقة (صمود) ضمن حديثها عن “عملية حوار وطني يقوده السودانيون”، ولكن تظهر هنا أولى المشكلات التعريفية، ما المقصود بالحوار السوداني السوداني؟
وهل يشمل جميع القوى السياسية بلا استثناء، أم يستثنى منه المؤتمر الوطني وواجهاته كما تنص الرؤية في مواضع عديدة؟.
الرؤية تقول بوضوح إنها ترفض “مكافأة الإسلاميين وعودتهم” بينما يعلم الجميع بأن (صمود) نفسها تضم إسلاميين منقسمين عن تنظيمهم الأم أو حزب المؤتمر الشعبي بقيادة الدكتور علي الحاج.
هذا التناقض الواضح يحتاج إلى توضيح، لأنه قد يضعف صدقية المبادرة نفسها، خاصة حين يطرح أمام قوى إقليمية ودولية تبحث عن مداخل تفاوض، وواضح من جولات قيادة صمود لبعض الدول- من بينها جنوب افريقيا- بهدف تسويق هذه الوثيقة، وحشد الدعم الإقليمي والدولي لبنودها.
بالطبع (صمود) تريد التأكيد على موقفها المبدئى الرافض لإعادة نظام المؤتمر الوطني، وهو أمر مستبعد في تقديري، لكن الأمر هنا ليس في التنازل عن مبدأ العدالة أو التصالح مع منظومة المؤتمر الوطني، بل في صياغة مبادرة تميز بين الإقصاء الأيديولوجي والإبعاد القانوني والمحاسبة الجنائية، وليس بناء على الانتماء السياسي أو الأيديولوجي وحده، لأن مسألة الاجتثاث السياسي والفكري غير عملية، وفشلت التجارب في هذا الصدد، ولم تنجح مثلا بجبروت كبير مثل أمريكا في اجتثاث حزب البعث العراقي، مع الفارق طبعا في الآلية والسياق.
تضع وثيقة صمود، مجموعة من المطالب المتعلقة بالمجتمع الدولي، مثل حظر السلاح، وتوسيع ولاية المحكمة الجنائية، والضغط من أجل وقف الحرب، وهي مطالب خلافية إذا طرحت في منبر حوار سوداني -سوداني، وقد تضع المبادرة في موضع شك إن كانت تعتمد أساسا على رافعة دولية لتحقيق التحول والانتقال الديموقراطي، ويجعل للمبادرة خصوم جدد يعارضون التدخل الدولي.
والواقع أن التجارب السودانية – وغير السودانية – اظهرت بأن التعويل على الخارج وحده خطأ إستراتيجي، ولا أحد سيزيح الإسلاميين من المشهد أو ينزع سلاح المليشيات نيابة عن قوى الداخل وعبر آليات مشروعة.
صحيح أن الحرب وما سبقها، وضعت السودان في مرمى التدخلات الأجنبية، بيد أن إعادة الصوت الوطني تبدت بقوى تغييرية حقيقية في الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير، ولم تدرك القوى الإقليمية والدولية ما حدث بالضبط حينئذ، لكنها عادت واستثمرت في الهشاشة التي صنعتها حالة الانتقال.
ولمن يدرك طبيعة العلاقات الدولية في العالم المعاصر، يعلم بأن أولويات المجتمع الدولي ليست العدالة أو دعم ثورات الشعوب، بل إن القوى الدولية عادة متشككة في النظام الجديد، وترغب عادة في الاستقرار، حتى وإن أتى نسبيا أو على حساب المحاسبة، لأن القوى أولية تفضل أنظمة متماسكة في حدود القدرة على المساومة أو الاستجابة أو العلاقات المصلحية التبادلية الاعتيادية.
وهنا تظهر ضرورة أن تعول هذه الوثيقة، وغيرها من مبادرات الحلول الوطنية، على توازن القوى الداخلي الجديد الذي صنعته حالة الحرب.
أخيرا، لا تخلو الوثيقة من طموحات كبيرة، وافكار سهل الاتفاق حولها، وقد تتهم مثل كثير من المبادرات المدنية بأنها تقدم تصورا مثاليا غير قابل للتنفيذ، خاصة في ظل غلبة منطق السلاح، وانحياز خصوم الثورة أنفسهم في النظام السابق إلى المحور الأقوى حاليا وهو القوات المسلحة ذات الرمزية الوطنية، إضافة لظهور محددات جديدة في توازن القوى مثل الحركات والمجموعات حاملة السلاح التي لا يمكن تجاهلها في أي مبادرة تهدف لبناء عملية سياسية مدنية.
بالطبع الرؤى النظرية ليست عيبا بل هي أساس ومرجعية للتنفيذ، والاهم من كل ذلك أنها تفتح الباب للنقاشات الممكن أن تؤدي إلى حلول وطنية إذا ما قبل الجميع بمساومة تنقذ البلاد وتؤسس ميدانا مقبولا للصراع السياسي الطبيعي.
أما إذا كانت مجرد تدوير لأدوات الماضي، فستنتهي سريعا دون تأثير ذو جدوى.
عموما فإن وثيقة “صمود” لا تقدم حلا سحريا وعاجلا، إلا أنها تسهم في إعادة تموضع القوى المدنية في المشهد، ولربما تستطيع تحويل هذه الرؤى إلى مواقف تفاوضية فاعلة في المستقبل.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.