النور حمد يكتب : إيران وإسرائيل ومنزلق الإضعاف المشترك

‏ د. النور حمد

يتشارك نظام الملالي في إيران وقوى اليمين الديني الصهيوني الإسرائيلي المتطرف، التي تحكم إسرائيل الآن، عقيدتين متشابهتين، موروثتين من ماضٍ بعيد. وكل العقيدتين تتشاركان نزعةً استئصاليةً وانتحاريةً متطرفةً لا فرصة معها للتعايش السلمي. فأهل كلا العقيدتين ينتظرون ظهور شخصٍ خارق القدرات. فأتباع التيار الشيعي الإثني عشري الحاكم في إيران ينتظرون عودة الإمام الغائب، الذي ينتصر المذهب الشيعي على الكل. أما اليهود الصهيونيون المتدينون فيؤمنون بعودة “المسيا”، أو (المسيح)، وهو في نظرهم مَلِكٌ بشريٌّ من نسل داؤود. وأنه سوف يظهر يومًا ما ليحقق السلام ويعيد بناء الهيكل ويجمع الشتات اليهودي جميعه في أرض الميعاد. الشاهد، أن الشرق الأوسط يعيش تحت رحمة هاتين القوتين العسكريتين الأكبر في المنطقة. وكلتا القوتين مرتكزة في أفعالهما على هذه الأساطير الدينية، المتوارثة أبًا عن جد، وصاغرًا عن كابر. خلاصة القول هنا، إن الصراع بين هذين القوتين صراعٌ صفريٌّ، لا فرصة فيه للتعايش السلمي. ولن يجنح هذان الطرفان للسلم إلا إذا عجزا عن الحرب. ولسوف تقودهما هذه الحرب إلى العجز.

كانت إسرائيل مدركةً، منذ البداية، هشاشة وضعها كجسمٍ غريبٍ جرت زراعته في منطقة الشرق الأوسط. فامتلكت منذ وقتٍ مبكِّرٍ جدًا السلاح النووي لكي تفرض وجودها بكونها تملك القوة التدميرية القصوى التي تمنع أي تهديدٍ وجوديٍّ لها. وظلت إيران، منذ ثورة الخميني، تسعى من جانبها، وباستمرار، إلى امتلاك القنبلة النووية لتحرر القدس وتنهي الوجود الإسرائيلي في أرض فلسطين. وتفرض، من ثم، هيمنتها على المجال الإسلامي، وتعيد كتابة التاريخ بإعادة الأمور إلى النقطة التي ترى أن الأمويين اختطفوا فيها الخلافة من علي بن أبي طالب.

عبر الهزائم المتكررة التي ألحقتها إسرائيل بالدول العربية، ترسَّخ لدى قادتها غرورٌ وغطرسةٌ تجسَّدت، أكثر ما تجسَّدت، في شخصية رئيس الوزراء الحالي، بنيامين نتنياهو. لقد نجحت إسرائيل في إضعاف اليسار العروبي، لكن ما لبثت أن قامت في مواجهتها قوى الإسلام السياسي، في نسختيها الشيعية والسنية. فبرز في المجال السني الشيخ، أسامة بن لادن، وبرز في المجال الشيعي الشيخ، حسن نصر الله. لكن، عبر عقود من الصراع المرير الذي أخذ صورًا عديدة، مات ابن لادن مقتولاً بيد الأمريكيين، ومات حسن نصر الله مقتولاً بيد الإسرائيليين. وبين موت الأول والثاني جرى قتل عدد كبيرٍ من قيادات حماس. ونتيجةً للضربة التي تلقاها حزب الله في لبنان، انحسر الظل الإيراني عن سوريا ولبنان وفلسطين. ويبدو أن هذه النجاحات ضللت اليمين الحاكم في إسرائيل بزعامة بنيامين نتنياهو، فقرر الهجوم على منبع التهديد الأصلي المتمثل في إيران. وقد كان ذلك خطأ كبيرا. غير أنه، خطأ سيصب في مصلحة استقرار المنطقة، ولو بعد حين.

إضعاف إسرائيل الممنهج لمناوئيها

بفحصٍ دقيقٍ لملابسات التاريخ السياسي الملتبس والمضطرب لهذه الحقبة في منطقة الشرق الأوسط، يجد المرء أن إسرائيل قد دفعت، بصبرٍ وأناةٍ، وعبر عقودٍ عديدةٍ، وبأساليب ماكرة، القوى العربية والإسلامية لتقوم بتدمير نفسها بنفسها، مع تدخلات قليلةٍ غير مكلفة من جانبها. نجحت إسرائيل، حتى هذه اللحظة، في إضعاف كافة القوى العربية والإسلامية العامدة إلى استئصالها. فقد استطاعت، ومن ورائها الغرب، من التخلص من الحكم الناصري في مصر والبعثي في كل من العراق وسوريا، إضافةً إلى نظام العقيد القذافي في ليبيا. كما ألحقت بالحوثيين في اليمن، بالاشتراك مع أمريكا، أضرارًا بالغةً. رأت الحكومة الإسرائيلية أن الفرصة قد حانت للتخلص من القوة الوحيدة المتبقية المهددة لأمنها في إيران. فبالقضاء على برنامجها النووي وإضعافها عسكريًا واقتصاديًا سوف ينفتح لها الطريق بصورة أكبر لتوسيع الاستيطان، وقتل حل الدولتين، والانطلاق، من ثم، لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل. غير أن تقديرات اليمين الإسرائيلي الديني المتطرف في هذه الحرب كانت تقديراتٍ خاطئة. وقد شعرت بخطئها قوى إسرائيلية عديدة. كما حدث تجاهها، ولأول مرة، انقسامٌ كبيرٌ جدًا وسط الحكومات والمجتمعات الغربية.

حربٌ نسفت أوهام إسرائيل

أصيب كثيرٌ من القادة الإسرائليين بسبب انتصاراتهم المتتالية، عبر أكثر من سبعين عامًا، بالزهو والغرور، والغطرسة، وتملكتهم نزعة الاستهانة المطلقة بإمكانية تنامي قدرات الخصوم. غير أن هذه الحرب، الجارية اليوم، وضعت القنبلة الناسفة للأوهام التوراتية الإسرائيلية، ونسفت معها، أيضًا، وهم المدن الإسرائيلية المحمية بالمنظومات الدفاعية الجوية التي لا يمكن اختراقها. لم يتوقع الإسرائيليون، قط، أن يصيب مدنهم من الخراب ما هو مشابهٌ لما أحدثوه في غزة. لكن، خرجت عليهم إيران بأنواع جديدة من الصواريخ، ومن بينها ما تسمى “الفرط صوتية”، فاخترقت كثيرٌ منها مختلف دفاعاتهم الجوية. فاهتزت، ولأول مرةٍ، منذ نشوء إسرائيل، ثقة الشعب الإسرائيلي في حكومته. كما تباطأت أمريكا والدول الغربية في الهبة إلى نصرة إسرائيل مما زاد طين مخاوفها الوجودية بلة. ولا يزال الضباب يلف القرار الغربي المتوقع حول ما ظل يجري لعشرة أيام. ويبدو أن الإنذار الباكستاني باستخدام السلاح النووي ضد إسرائيل، إذا جرى الاعتداء على إيران نوويً،ا قد أربك المعادلة الأمنية الإسرائلية والغربية في آنٍ معًا، وقد حيَّد، حتى الآن، احتمال استخدام السلاح النووي.

الخطر الإيراني

لقد سيطرت إسرائيل في هذه الحرب على المجال الجوي الإيراني بصورةٍ شبه كاملة. ولذلك، أصبح في وسعها تدمير قدرٍ كبيرٍ من البنيات التحتية والمنشآت الاقتصادية والعسكرية الإيرانية. ولسوف يعيد هذا إيران عقودًا إلى الوراء. لكن بنفس القدر، انكشفت الثغرة الأمنية الإسرائيلية التي سوف تتسع أكثر فأكثر. فتكنولوجيا الصواريخ “الفرط صوتية” ستتقدم، هي الأخرى. كما أن ما فعلته إيران بإسرائيل في هذه الحرب سوف يشجع دولاً عديدة في الإقليم على امتلاك هذا النوع من الصورايخ. باختصارٍ شديد، نسفت إسرائيل بغطرستها وغرورها وصلفها أسطورة الجيش الذي لا يقهر التي طالما تباهت بها. وبناء عليه، سوف تضطر إلى التخلي عن الأوهام التوسعية الشاطحة لتبحث عن صيغةٍ معقولةٍ للتعايش السلمي بإحياء حل الدولتين. لكن، على المسلمين الذين يصفقون الآن لإيران من بين الشيعة والسنة، أن يدركوا أن إيران لن تكسب هذه الحرب. وستخرج منها خاسرةً، مثلما ستخرج خاسرة منها إسرائيل. فإيران لم تكن أصلاً بحاجة إلى السلاح النووي، بقدر ما كانت بحاجة إلى التنمية الاقتصادية والتخلي عن محاولات احتلال الفضاء السني بنشر المذهب الشيعي. وكذلك، بمحاولات هلهلة حكوماته بغرض إسقاطها ونشر نمط الحكم الاستبدادي المرتكز على ولاية الفقيه.

إن الخطر الإسرائيلي والخطر الإيراني على مستقبل الشرق الأوسط متساويان. ولا ينبغي أن يعمينا إيماننا بالعقيدة الإسلامية والبحث عن نصرٍ على إسرائيل بأي سبيل عن هذه الحقيقة. والسبب أن كلا إيران وإسرائيل ترتكزان على عقيدة دينية استئصالية انتحارية متطرفة. كما أن التطرف السني الذي يمثله الدواعش والسلفية الجهادية وتيارات الإخوان المسلمين، يمثل هو الآخر خطرًا مماثلاً للخطرين الإسرائيلي والإيراني، على مستقبل الاستقرار والحكم الرشيد والتنمية في الشرق الأوسط. فنحن بحاجة إلى تجديد للخطاب الديني بصورة تخرجنا من قبضة التطرف الشيعي والسني في آن معا. فالنصر القادم لهذه الأمة لن يكون نصرًا عسكريًا، وإنما نصرٌ ثقافيٌّ وسياسيٌّ وتنموي. والنصر الحقيقي المستدام لا يتحقق بالحرب، وإنما بالسلام والنهضة الشاملة. فالصين تنتصر الآن لتجلس على كرسي الصدارة في الكوكب وهي التي لم تشعل حربًا واحدة. هذا في حين يتآكل الغرب الآن، وبوتيرة متسارعةٍ بسبب الحروب. ومع تآكله تتبدد تلقائيًا الأحلام الإسرائيلية الشاطحة. فالصين ومن تداعوا إلى الانضمام إلى محورها الاقتصادي والسياسي يتقدمون في هدوءٍ، وبسرعةٍ مذهلة. ولن يمر وقتٌ طويلٌ قبل أن تنطوي حقبة الهيمنة الغربية وتصبح أثرًا بعد عين. ولسوف تنشأ في هذا المنعطف التاريخي الكبير أجيالٌ شرق أوسطية جديدة، متحررةٌ من أغلال هذا البرادايم الدينو/سياسي، الذي يتشاركه متطرفو الغرب ومتطرفو المسلمون.

elnourh@gmail.com


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *