منوعات – شبكة_الخبر – في قلب وادي حلفا، وعلى ضفاف النيل الذي شهد مآسي التهجير ودموع المفارقين، وُلد الشاعر والإعلامي السوداني الرفيع سليمان عبد الجليل عام 1947م، ليكون شاهدًا وكاتبًا على واحدة من أكثر التراجيديات الإنسانية إيلامًا في تاريخ السودان الحديث. ومنذ نعومة أظافره، تشرب الشجن وتشرّب من ينابيع الشعر واللغة ما صاغ به لاحقًا بكائياته الخالدة التي خلدت حلفا، وأحالت أنين المهجّرين إلى فن خالد.
تلقى الراحل تعليمه بالخرطوم، واستقر في حي السجانة العريق، وكان والده يعمل بسرايا الحاكم العام. اتّسم سليمان منذ بداياته بالذكاء الوجداني والخُلق الرفيع، وتقدّم الصفوف كواحد من أوائل النقاد الفنيين في البلاد، بزّ زملاءه برهافة حسه واحتراف قلمه، فزاوج بين الذوق الأدبي والحنكة الصحفية، حتى صار اسمه مقترنًا بالمهنية والرصانة في مجلات وصحف مرموقة مثل “الأضواء”، و**”مجلة الإذاعة والتلفزيون”، و”الصحافة”**.
عُرف سليمان عبد الجليل بقدرته الاستثنائية على الغوص في أعماق المأساة وتطويع اللغة لتصبح مرآةً حقيقية للحزن الجمعي، وكانت مأساة تهجير أهالي حلفا بسبب قيام السد العالي أكبر منبع لإلهامه الشعري. كتب ثلاثية بكائية شهيرة تغنّى بها الفنان حمد الريح، واستحالت إلى أيقونة غنائية توثّق لرحيلٍ قاسٍ، ولدموع لم تجف:
“حليل ناس ليلى ساعة الليل يجن
يا غالية يا تمرة فؤادي
الليلة ما عاد المراكب شرقن…”
وفي قصيدة أخرى، يفيض الشاعر حنينًا مشوبًا بالخذلان، حيث لا يزال صداه في الوجدان الجمعي لأهل حلفا:
“كالسواقي النايحه وسط الليل
حنين الدنيا ممزوج في بكاها…”
أما “مساخة الحلة”، فهي واحدة من درره الخفية التي لم تحظَ بانتشار كافٍ رغم ما حملته من عمق إنساني وجمال شعري:
“يا مساخة الحلة
يوم ناس أمنة فاتو…”
لم يكن سليمان مجرد شاعر؛ بل كان صوتًا للوجع الجماعي، ومؤرخًا وجدانيًا للهجرة القسرية والفقد الكبير. كما كان صديقًا وفيًا للراحلين إسماعيل حسن ومحجوب شريف، حيث ظل يحيي ذكراهم، ويصون عهد المبدعين في الحياة وبعد الرحيل. لعب دورًا محوريًا في دعم وإبراز عدد من الشعراء والفنانين الشباب، وفتح لهم أبواب الإعلام، موظفًا موقعه كمدير للعلاقات العامة والإعلام بوزارة التجارة في تمكين الفن من أداء رسالته الوطنية والوجدانية.
ظل طوال حياته رمزًا للأدب الرفيع والوفاء الإنساني، وواحدًا من الذين أرسوا دعائم الصحافة الفنية السودانية بعمقها الثقافي ومصداقيتها المهنية.
في 17 أكتوبر 2019، أسدل الستار على مسيرة هذا الصوت النبيل، ودُفن في مقابر الصحافة، تاركًا خلفه تراثًا من الحنين المغنّى، وكلمات تظل تسكن الذاكرة الوطنية كما يسكن الماء جروف النيل.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.