عبد الله علي إبراهيم
ملخص
(فكان اتفاق سلام جوبا فينا “طائر شؤم” أشاع الفتنة بين الجماعات السودانية فضرجتها الاحتجاجات عليه وسقط ضحايا جراء ذلك، بل كانت نهاية ثورة ديسمبر 2018 وحكومتها الانتقالية على يده. وكان أخطر حصائده هو ما عرف بـ”مشكلة الشرق”، أي شرق السودان الذي يدير جبريل إبراهيم أمر وزارته وحركته من حاضرته، بورتسودان).
اتفق كثير من المراقبين على أن مما قد يؤخر تشكيل الحكومة السودانية الجديدة الذي كلف به الدكتور كامل إدريس، وتأخر بالفعل لأكثر من أسبوعين، هو حصة حركات دارفور المسلحة من حقائبها. وهي الحصة التي جعلها اتفاق جوبا للسلام في أكتوبر 2020 لتلك الحركات وحلفائها في ما عرف بـ”أطراف العملية السلمية”. ولم تبق من الأطراف المسلحة من حلفاء القوات المسلحة خلال يومنا سوى حركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بزعامة منى أركو مناوي وشيء من حلفائهما. فلهذه الأطراف بحسب الاتفاق ثلاثة مقاعد في مجلس السيادة (المادة 4 فاصل 1)، وخمس وزارات (المادة 5 فاصل 1) وهي 25 في المئة من حقائب مجلس الوزراء في يومهم، و25 في المئة من مقاعد المجلس التشريعي البالغ عضويته 300 عضو (المادة 6) كما تقرر.
وجاءت صحيفة “ألوان” بصورة تقرب لنا ما وصفه المراقبون بـ”حجر العثرة” الذي سيغالبه كامل مع الحركات المسلحة من دون تشكيل وزارته. فجاء في لقاء للصحافي مجدي العجب مع محمد سيد أحمد الجاكومي، أحد قادة العملية السلمية الحليف للحركات المسلحة، ما قد لا يعطل هذا التكوين من جهة القسمة المسبقة في اتفاق سلام جوبا لأطراف العملية السلمية فحسب، بل مما يزيده عطلة جراء خلاف أطراف هذه العملية نفسها أيضاً.
فقال الجاكومي إن توزيع السيادي والوزراء كان موضوع نزاع قديم بين حركات دارفور، أي مسار دارفور في الاتفاق، وبين حلفائها في العملية السلمية وهي مسارات غير المسلحين حلفاء الحركات الذين تكونوا من تنظيمين في شمال السودان، وتنظيم داخل وسط السودان وآخر في الشرق، ومنظمة كوش التي تمثل الشعب النوبي التاريخي في الشمال النيلي، والجبهة الثالثة تمازج التي انضمت لـ”الدعم السريع” بعد الحرب.
فكان جبريل إبراهيم زعيم “العدل والمساواة” طالب مع بدء الاتفاق بخمس وزارات لمسار دارفور ووزارة واحدة للمسارات الأخرى. وهو مطلب استكثره حتى مناوي زعيم حركة تحرير دارفور نفسه. واقترح أن تنال دارفور ثلاث وزارات وتترك للمسارات الأخرى وزارتين. ولكن وافق الفريق الركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، “العدل والمساواة” في مطلبها، بينما اختلف معه الفريق ركن شمس الدين الكباشي. وخضعوا لرأي البرهان في خاتمة المطاف. ثم تجدد النقاش عن الحظوظ من اتفاق جوبا للمسارات عام 1924 وتمسك جبريل بما تمسك به من قبل، وخضع له الآخرون.
إذا بات حلفاء اتفاق جوبا على هذا الضغن منه فمن باتوا عليه من خارجه كثر. فكان الاتفاق فينا “طائر شؤم” أشاع الفتنة بين الجماعات السودانية فضرجتها الاحتجاجات عليه وسقط ضحايا جراء ذلك، بل كانت نهاية ثورة ديسمبر 2018 وحكومتها الانتقالية على يده. وكان أخطر حصائده هو ما عرف بـ”مشكلة الشرق”، أي شرق السودان.
ونتوقف قليلاً عند طبيعة حلفاء العملية السلمية في اتفاق جوبا لفهم هذه المشكلة.
كان تداعى مسلحو دارفور وإقليم النيل الأزرق لمائدة جوبا للتفاوض حول السلام مستصحبين جماعات سياسية مدنية من أقاليم الشمال والوسط والشرق، تحالفت معهم خلال نضالهم لإسقاط نظام الإنقاذ. وهي الجماعات التي صح وصفها بـ”صحبة مسلح”، أي إنهم ما حصلوا على كرسيهم على مائدة المفاوضات للسلام أصالة لأنهم لم يرفعوا سلاحاً محاربين، بل بفضل حليف مسلح.
وجاءت “الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة” ضمن من جاء صحبة مسلح، ممثلة لشرق السودان في طاقم العملية السلمية. فخصها الاتفاق بمسار عرف بـ”مسار الشرق” رد ظلامة أهله وجبر ضررهم بحسب ما اتفق للجبهة الشعبية وصارت لها السدانة عليه. وأثار ذلك خلافاً في الشرق لم تبرأ جراحه بعد.
أغضب ذلك الترتيب شعب الهدندوة التاريخي بقيادة ناظرهم محمد الأمين ترك لأنهم لم يريدوا للجبهة الشعبية، التي أكثر شيعتها من شعب البني عامر، أن تتولى أمرهم من وراء ظهرهم في سانحة طرأت لها ولم يستشر فيها غيرهم. وما بين الجماعتين ما صنع الحداد. وزاد من شعور الهدندوة بالإهانة أن المسار دعاهم بعد فوات الأوان إلى مؤتمر تشاوري يدلون فيهم برأيهم فيما جاء في المسار مما يقول عنه السودانيون “دق الأضينة (الأذينة) واتعضرلو (تعذر له)”.
وتخلقت من يومها مشكلة سياسية عرفت بـ”مشكلة مسار الشرق” خيمت على السياسة السودانية وكبدتها الشقاق والمهج. وصارت غصة في حلق الاتفاق نفسه. فلم ينعقد اجتماع سياسي بعد التوقيع عليه لرأب صدع الأمة لم تكن مشكلة الشرق بنده الساخن والمستحيل.
انقدحت شرارة أزمة المسار الأولى في مدينة بورتسودان حاضرة شرق السودان، خلال نوفمبر 2019 لدى عودة رئيس الجبهة الشعبية للتحرير للشرق ليعرض، كمفاوض عنه، للجمهور ما توصلوا إليه في مسار الشرق. وأغضب ذلك شعب الهدندوة وآخرين. والتحم جمهور منهم مع حضور ندوة رئيس الجبهة. ثم تصاعد الاحتجاج ضد المسار لذروته خلال يوليو 2021 بتتريس نظارات البجا، بزعامة الهدندوة، وحلفائها طريق الخرطوم-بورتسودان مطالبين بإلغاء المسار. وحجتهم في ذلك أنهم غيبوا ظلماً عن المشاركة في التفاوض حوله والتوقيع عليه. واستثمر العسكريون، من كان عقد ذلك السلام اختصاصاً دستورياً لمجلس السيادة الذين لهم فيه مطلق النفوذ، في ثورة الشرق لحصار الحكومة الانتقالية وإضعافها ثم القضاء عليها بانقلاب الـ25 من أكتوبر 2021.
ولم تسلم حركة العدل والمساوة نفسها من لعنة طائر الشؤم. فانشقت إلى جناحين في أول الحرب بعد اختلاف موقفيهما حيالها. فتفجر الخلاف في قول الجناح المناوئ لجبريل بسبب ما أخذوه عليه من انحياز لجانب الجيش في الحرب، في حين كان خط الحركة هو الحياد بين الأطراف. وهو مأخذ يصب في سياق تظلمهم العام من انفراد جبريل بالقرار في الحركة. ومن وقائع هذا الانفراد اشتراكه في انقلاب أكتوبر 2021 الذي أطاح الحكومة الانتقالية لقوى الحرية والتغيير. وردوا موقفه من تلك الحكومة إلى أنه لا يزال شديد الارتباط بالحركة الإسلامية التي تعارض الحكومة بلا هوادة. وتطايرت شرارة هذا الخلاف أول ما تطايرت عند فصل جبريل لقادة الانقسام، لأنهم اجتمعوا في تشاد بعبدالرحيم دقلو نائب قائد قوات “الدعم السريع” خلال يونيو 2023، وامتنعوا عن تقديم تقرير عن ملابسات الاجتماع بعد طلب جبريل ذلك منهم. وهو اجتماع يصر خصومه أنه لم يحدث.
ولكن الخلاف ليس بعيداً مع ذلك من “غنيمة” مؤتمر جوبا للسلام. فنظر الصحافي والمشارك في التفاوض الباكر في الشأن الدارفوري محمد محمد خير إلى بواعث الخلاف في ما وراء ما يتحجج به طرفا نزاع “العدل والمساواة”. فقال إن دافع المتمردين على جبريل ربما كان في أنهم لم يحظوا بالرتبة الرفيعة بعد اتفاق جوبا للسلام التي استحقوها بعد تلك الخدمة الطويلة للحركة. وقال الصحافي محمد الأسباط إن عدداً من المنشقين منوا أنفسهم بمناصب سياسية في حكومة ما بعد اتفاق جوبا، التي حثت الوظائف حثواً للحركات الموقعة على هذا الاتفاق. وفهم الأسباط أن شكواهم من احتكار جبريل للقرار من سدة الرئاسة من زاوية استبعادهم من ثمار الاتفاق. وهذا ربما ما عنوه بتحميلهم جبريل مسؤولية إبعاد قيادات تاريخية للحركة للاستئثار بالمكاسب التي تحققت بفضل الاتفاق، ومنح السلطة لبعض المقربين منه.
أما شؤم اتفاق جوبا المضرج فكان في مأساة ولاية النيل الأزرق خلال يوليو 2022. واصطرع جناحا مالك عقار وعبدالعزيز الحلو في الولاية منذ انقسمت الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) عام 2017. ومن رأي مراقبين أن ذلك الصراع ربما كان من وراء مقاتل شعبي الهمج والهوسا في الولاية التي حصدت 300 نفس وشردت 17 ألف نازح. فحظي جناح عقار بالسلطة داخل الولاية لغياب غريمه الحلو عن مؤتمر سلام جوبا. فصارت له، وهو الضعيف ميدانياً قياساً بالحلو، سدة الحكم. وقال المراقبون إنه أراد أن يعزز موقفه بالتعاطف مع موقف شعب الهوسا الذي طالب الحكومة بمنح زعيمه رتبة النظارة التي هي عنوان أصالة أي جماعة حيث هي. فأعراف الأرض والإدارة في السودان لا تعطي النظارة إلا لمن كان على أرض هي دار تاريخية له. ولم يكن للهوسا ذلك. وما طالب الهوسا بالنظارة حتى قاومهم الفونج الذين كانوا استضافوهم تبعاً في دارهم التاريخية.
من جهة أخرى، شكت حركة “تمازج” التي تزعم النسبة إلى الحركة الشعبية في جنوب السودان عند الحدود بين شمال السودان وجنوبه قديماً لطوب الأرض، من فرط إهمالها في نيل مستحقاتها في ما تحقق من تنفيذ اتفاق جوبا. فقالت إنهم دخلوا الاتفاق 14 حركة مسلحة ومطلبية، نالت ست منها حظوظها من الاتفاق، بينما استبعدت الثماني الأخرى تماماً، ولفتت إلى أن عناصرها صبرت على جحود الحكومة وأطراف السلام الأخرى، ولكن للصبر حدوداً. وما اندلعت الحرب حتى اصطفت تمازج مع “الدعم السريع” غبينة من اتفاق لم يعد عليها بكسب انتظرته.
ناهيك من أن مليشيا “درع السودان”، بزعامة أبو عاقلة كيكل، نشأت أصلاً “حاسدة” كسب ولاية دارفور من اتفاق جوبا لا “بغرانة”. فإذا كانت الحرب لا غيرها مما تنال به الجماعة في السودان حقاً فمرحباً يا سلاح وجئناك يا حرب. وأدوار “درع السودان” في الحرب في صف الدعم السريع أولاً ثم الجيش من بعده هرج مضرج.
ومن سخرية القدر أن جبريل إبراهيم الذي لا يعض على النواجذ على نصيبه من اتفاق جوبا من حقائب الوزارة فحسب، بل يصر أيضاً على وزارات الموارد التي لم يعينها له الاتفاق تعييناً، يفعل ذلك من مدينة بورتسودان مركز الحكومة المؤقت. وهي حاضرة إقليم ذاق على يده فتنة مسار الشرق فاحتقن وتكدر واحترب. فكان صحب إلى مائدة المفاوضات فريقاً من أهله كما رأينا وجعله وكيلاً عنهم، وغمط مكوناته الأخرى الرحبة حق أن تستقل بالنظر في مسألتها وتتنادى إليها بلا تطفل. وكان يقول لمن التمس منه أن يعيد النظر في فقرة أو أخرى من الاتفاق شفقة من وخيم عواقبه، إنه إما الاتفاق بحذافيره وإما عاد للحرب مرة أخرى. فطلب جبريل الديمقراطية وما نالها حتى حجبها عن غيره. وطلب السلام بالقوة واترع كسباً منه ليسوق جماعات إلى زعازع في أمنها، لأنها فقط لم تطرأ له.
اتفاق جوبا كما رأينا لم يسعد أحداً سوى من تعلق بغبار مواد الوظيفة الدستورية فيه. فلم تفتح أبوابه عن التعويضات وجبر الضرر لسائر أهل دارفور فحسب، بل انفتحت أبواب الجحيم مرة أخرى عليهم يلقونها بالعزائم التي لا تنضب. وتنهض القوات المشتركة التي “العدل والمساواة” في طليعتها بأدوار فدائية مرموقة، لا في الولاية فحسب، بل وفي سائر القطر أيضاً. وهذه سبيل جديد لشرعية مثل قادة الحركات المسلحة لا اتفاق جوبا. فتلك أمة خلت.
وسيرى جبريل تغير الحال في يومنا من قول للجاكومي إنهم لن يقبلوا باستضعاف “العدل والمساواة” لهم هذه المرة. فإن لقي جبريل يده من قبل لأنه حمل السلاح دوننا، في قوله، فاليوم أمر وحرب حمل الجميع فيه السلاح.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.