حديث المدينة الأحد 22 يونيو 2025
المهندس عمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني، من السياسيين القلائل الذين يتمتعون بالقدرة على إدارة حوار حصيف مع الآخر دون التخلي عن الموضوعية والعقلانية. كتب مقالًا وافيًا ردًا على ما نشرته هنا حول “رؤية تحالف صمود”. و مثل هذا الحوار المستنير، لو توفر في المشهد السياسي، لما عانت بلادنا من مصائب كثيرة دفع ثمنها الشعب السوداني.
تطوع المهندس الدقير بالرد على نفسه بنفسه في الجزء الأول من مقاله إذ قال:
(من أبرز ما يلفت النظر في مقال عثمان ميرغني اعتماده سردية تبسيطية تُعلن نهاية ثورة ديسمبر بمجرد سقوط رأس النظام في أبريل 2019. وهذا تأويل قاصر لا يعكس فهمًا دقيقًا لمفهوم الثورة، بل هو تعجُّل في إعلان نهايتها قبل اكتمال فعلها التاريخي..)
ثم عاد الدقير لتأكيد أن الثورة مرحلة عابرة مؤقتة، إذ يعتبرها ممهدة لبناء الدولة. يقول بوضوح: (والثورة، في الأصل، مشروع دولة بديلة)، ثم يؤكد ذلك بقوله: (اختزال الثورة في لحظة سقوط النظام هو تبسيط مخلّ لتحول تاريخي عميق لا يكتمل إلا بتحقيق شروط بناء الدولة المدنية الديمقراطية).
هنا يجوز أن أسأل الدقير: هل هذا نقد لما قلته أم تثبيت؟ فهو أكد أن الثورة مجرد ممر يفضي إلى تكوين الدولة. وبناءً على ذلك، من المنطقي أن نجتهد في تقصير هذا الممر أو اختصار “التمهيد” لننتقل إلى مرحلة بناء الدولة، وهذا بالتحديد عين ما كتبته في مقالي.
في حالة ثورة ديسمبر، بدأ العمل الميداني في 19 ديسمبر 2018، وسار في طريق وعر محفوف بالدماء والمعتقلات على مدى أربعة أشهر، حتى بلغ ذروته في اعتصام ساحة القيادة يوم السبت 6 أبريل 2019. وفي صباح الخميس 11 أبريل 2019، توّج الفعل الثوري بسقوط النظام بالطريقة المعهودة المتوقعة، وهي انحياز القوات المسلحة إلى جانب الشارع.
وهنا وقعت الغلطة الفادحة التي ندفع ثمنها حتى اليوم. لحظة التسليم والتسلم التاريخية التي كان يفترض أن تكتمل مباشرة بعد بيان الفريق أول عوض بن عوف. فالطوفان البشري كان يملأ الشوارع، ولم يكن بإمكان اللجنة الأمنية فرض إرادتها عليه.
ذروة اشتعال الثورة كانت نهار الخميس 11 أبريل 2019. ولو أن قوى الحرية والتغيير أذاعت في تلك اللحظة بيانها الذي تعلن فيه تشكيل الحكومة، وربما المجلس التشريعي، لكانت الفترة الانتقالية مجرد ساعات، هي المسافة الفاصلة بين البيانين. ولبدأت مرحلة بناء الدولة من صباح الجمعة 12 أبريل 2019.
لكن “شح الخبرة” أدى إلى الاعتراف بسلطة المجلس العسكري عندما بدأت قوى الحرية والتغيير تقدم طلباتها في أول اجتماع عُقد في القيادة العامة بين الطرفين. وقد أعلن عمر الدقير نتائج ذلك الاجتماع في خطابه بساحة الاعتصام مباشرة، قائلًا: (حدثناهم عن إطلاق سراح البوشي، وقد وافقوا.. ثم حدثناهم عن إطلاق سراح هشام ود قلبا، وقد وافقوا..). كانت تلك لحظة القبول والإيجاب التي نصّبت المجلس العسكري حاكمًا، وقوى الحرية والتغيير –ممثل الثورة– رعية تقدم طلباتها للحاكم ويستجيب.
واستمرت مرحلة المفاوضات العجيبة بين وفد المجلس العسكري المنظم حسب تراتبية محكمة، يدخل الاجتماع بخطة مدروسة، في مواجهة شركاء متشاكسين من قوى الحرية والتغيير، الذين لا تربطهم هيكلية موحدة، ويلتفون على هذا الوضع المخل بما يسمونه “تنسيقية” تفتقر إلى التراتبية والهياكل. فبدت مجموعة ذات رؤوس متعددة بعدد ممثلي الكتل التي تضمها.
ما فعلته قوى الحرية والتغيير كان عملية “مط” للثورة، وتمديدًا للفعل الثوري حيث كان يجب أن يبدأ بناء الدولة. لا نتهم النوايا، ولكنه “شح الخبرة”. وامتد الأمر أكثر عندما تغافلت قوى الحرية والتغيير عن تكوين مؤسسات الدولة، وتجاهلت تشكيل البرلمان، وأنهت عقود قضاة المحكمة الدستورية دون تجديدها أو استبدالهم، فتوقفت المحكمة عمليًا، مما أدى إلى فراغ دستوري تراكمت معه أحكام الإعدام غير المنفذة. والسبب هو غياب منهج “بناء الدولة” والاستغراق في الحالة الثورية.
لا أنسى أبدًا ما كنت أكرره للساسة الذين تحدثت معهم خلف أسوار المعتقل قبل سقوط النظام. قلت لهم بوضوح: (أنتم رجال الثورة، نجحتم في قيادة الشارع، لكن يجب أن تدركوا أنه بمجرد سقوط النظام، يجب أن يصعد إلى المسرح “رجال الدولة” ليواصلوا المسيرة). كثيرًا ما كانوا يسخرون من هذا القول، لكن نتائجه كانت واضحة على الأرض عندما جاءت اللحظة الحقيقية، عندما تحتم أن تبدأ مرحلة بناء الدولة. لكن “رجال الثورة” أصروا على احتكار المشهد وهم لا يملكون خبرة أكثر من إدارة التظاهرات. فكانت النتيجة أنه عندما قرر العسكريون في مجلس السيادة الانقلاب على الحكومة الانتقالية في فجر يوم 25 أكتوبر 2021، لم يحتاجوا حتى إلى قطع برامج الإذاعة والتلفزيون أو بث المارشات العسكرية.
كانت الثورة حينها ثمرة ملقاة على قارعة الطريق، ولم تكن هناك دولة.
ونواصل.. مع مقال المهندس عمر الدقير..
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.