مصعب الريح رشاش
Rushash72@gmail.com
في تسعينيات القرن الماضي أصدر محافظ إحدى مدن غرب السودان الكبيرة قراراً بمنع الرجال عن القعود في محلات ( ستات الشاي ) . كان المحافظ اسمه ( مختار ) . فقيل أنه كان الواحد إذا مر بالقرب من محل ( ست شاي ) يرمقها بنظرة حسرة يقول معناها : ( داير قربك لكن مختار ) .
قفزت إلى ذهني تلك الطرفة حينما قرأت , آخر الأسبوع الماضي , خبراً يقول أن حكومة ولاية الخرطوم عقدت اجتماعاً برئاسة الوالي ناقشت فيه بدائل لتنظيم مهنة بيع المشروبات الساخنة و الباردة . و أوضح الخبر أن البدائل تهدف إلى معالجة التشوهات الناتجة عن الإنتشار العشوائي للبائعات .
باعتقادي أنه قبل الشروع في محاولة معالجة التشوهات الناتجة عن إنتشار ستات الشاي كان علينا أن نسأل أنفسنا أولاً . لماذا يتفرد السودان من دون بلاد الله قاطبة بهذه الظاهرة ؟ أو لماذا تمثل ظاهرة ستات الشاي حالة سودانية خالصة من الأساس ؟ .
فطالما أن ظاهرة ستات الشاي ماركة سودانية مسجلة فمن الضروري البحث في أسباب و علل نشوئها أولاً, لأن الانزعاج الرسمي المعبر عنه بعبارة ( معالجة تشوهات الانتشار العشوائي ) هو انزعاج من الظاهرة نفسها في الأصل . و كلمة ( عشوائي ) تحديداً لا تحمل دلالة واضحة في هذا السياق لأن كل المحالات التي تعمل فيها ستات الشاي على أطراف الطرقات أو في المساحات الخالية , لا تعمل بموجب تصاديق أو تراخيص رسمية من السلطات المختصة فهي عشوائية في الأساس .
فيما يلي من سطور سنحاول الإجابة عن السؤالين اللذين طرحناهما في الفقرة السابقة :
أولاً : إن ظاهرة ستات الشاي بدأت تظهر في أعقاب تحولات ديموغرافية كبيرة أحدثتها موجات النزوح الهائلة التي شهدتها البلاد جراء اشتعال الحروب في مناطق واسعة من جنوب و غرب السودان . و استمرت الظاهرة في التوسع مع استمرار الحروب في الأطراف . و لذلك فإن خروج النساء و الفتيات لكسب الرزق من تحضير و تقديم الشاي هو ظاهرة اجتماعية عميقة الجذور تمثل انعكاساً مباشراً لفشلنا الوطني في إقامة دولة الرفاه و الأمن و الإستقرار و الإزدهار . و هي تفضح بؤس أداء مؤسسات الرعاية و التخطيط الاجتماعي و ضعف أو قل انعدام برامج و آليات تمكين المرأة اقتصادياً و ضعف تأهيلهن و تعليمهن . و بما أن غالب ( ستات الشاي ), في الوقت الراهن , صرن من المطلقات و المعلقات أو بناتهن فهي لذلك تمثل إفراز مباشر أيضاً لضعف البيئة القانونية التي تمكن أرباب الأسر و الآباء من الهروب و التنصل من مسؤولياتهم في تربية و إعالة أسرهم فتقع الفأس على رأس الأمهات و بناتهن فيضطررن إلى دخول سوق العمل من أقرب أبوابه من أجل كسب لقمة العيش .
ثانياً : إن محلات ستات الشاي أصبحت هي الملاذ الوحيد لمواطني المدن . باتت متنفس للناس يلتقون فيه و يتسامرون في الأمسيات و في أوقات الفراغ . حدث ذلك لأن بيئتنا المدنية لم تتطور لتوفر أماكن تمارس فيها الأنشطة الترفيهية . بل للأسف انتكست المدنية في البلاد و اندثرت فيها المقاهي العتيقة الوقورة التي كان يجتمع فيها المثقفون و الأدباء و الفنانون و الموسيقيون . ليست المقاهي فحسب بل تراجع دور المسرح إلى أقصى الحدود و اندثرت السينما و اختفت مراكز الشباب و الأنشطة الجامعية و المدرسية الثقافية و الأدبية المسائية . اغلقت الكازينوهات و المكتبات العامة و المراكز الثقافية التي كانت قائمة و لم تؤسس مراكز جديدة لتواكب الزيادة المضطردة في السكان و توسع المدن . و كذلك اضمحل دور المتنزهات و الحدائق العامة و بات الوصول إلى الحدائق و المتنزهات القليلة القديمة عصياً على معظم السكان لبعد المسافات و ارتفاع تكلفة الانتقال . و لما باتت الحكومات في السنوات الأخيرة تتعامل مع الأرض بوصفها سلعة سريعة العائد المادي , طفقت الحكومة تبيع المساحات العامة وسط الأحياء المخصصة للخدمات العامة و الترفيه .
رابعاً : يلاحظ تكدس المواطنين في محلات ستات الشاي بالقرب من المؤسسات العامة أثناء النهار . و يعد ذلك إفراز مباشر للبيروقراطية و بطء إنجاز المعاملات و ضعف كفاءة مؤسساتنا الوطنية . و لذلك باتت محلات ستات الشاي هي المكان المناسب للمواطنين الذين ينتظرون إكمال معاملاتهم في بيئة يبدأ فيها الموظفون العمل فعلياً بعد نحو ساعتين من ميعاد بداية الدوام الرسمي . ثم بعد ساعة واحدة من البداية الفعلية للعمل يذهب الموظفون لتناول الإفطار في فسحة قد تمتد إلى ساعتين أو أكثر . تلك البيئة المؤسسية التي يتطلب التوقيع فيها على مستند واحد ثلاثة أيام يغادر فيها الموظفون مكاتبهم قبل نحو ساعة كاملة من نهاية الدوام و ينتشرون في الباحات أو خارج مباني المؤسسة في انتظار الترحيل . و في ذلك المناخ لا تكتمل المعاملة التي يمكن انجازها في خمس دقائق إلا في يوم عمل كامل في أحسن الأحوال .
خامساً : إن تكدس المواطنين عند محلات ستات الشاي وسط المدن و في الأسواق الرئيسة نهاراً يمثل وجهاً حقيقياً لأزمة البطالة التي قال تقرير للأمم المتحدة صدر قبل أيام أنها بلغت نسبة %71 من السكان في السودان . و هي نسبة كارثية بحسب التصنيف المعتمد و الذي يقول أن نسبة البطالة إذا بلغت 20+ % في الدولة فتلك حالة تمثل أقصى مؤشرات الخطورة و ستؤدي مباشرة إلى نشوب النزاعات المسلحة و الاضطرابات الأمنية العميقة . فالآن معظم الذي يقضون الساعات الطويلة أناء النهار عند محلات ستات الشاي هم من الرجال العاطلين و الشباب الباحثين عن العمل و كثير منهم من المنخرطين في أعمال السمسرة و الأنشطة الضارة بالاقتصاد الوطني .
لكل ذلك في تقديري أن محاولة معالجة قضية ( ستات الشاي ) بوصفها حالة خاصة و تجاهل السياق الاجتماعي و الثقافي و الاقتصادي الذي نشأت فيه , هو بمثابة محاولة معالجة الحمى بوصفها مرضاً رئيسياً و عدم التعامل معها على أنها مجرد عرض و مؤشر ظاهري لمرض باطني معقد و خطير
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.