د. عبد العظيم ميرغني
الاخت الصغيرة الفقيرة
The Poor Little Sister
بمناسبة اليوم العالمي للتصحر
• من أغاني التراث الشعبي السوداني، أغنية لتلاتة بنات هنّ، لابسات تياب ومقنعات، شغَلن قلب المغني، لمن باص الروصيرص فات.
• الأغنية، ببساطتها وعمقها، ترسم مشهداً من الحيرة والانجذاب، نحو ثلاثة بنات، دون تفضيل إحداهن وإهمال الأخريات.
• في الأدبيات البيئية والسياسية العالمية، تتردد قصة مماثلة لثلاثة بنات أيضاً، هنَّ شقيقات: اتفاقية تغيّر المناخ، اتفاقية التنوع الأحيائي، واتفاقية التصحر، غير أن الأخت الأخيرة فيهن، اتفاقية التصحر، هي الصغرى والفقيرة (The Poor Little Sister)
• لقب الأخت الصغير الفقيرة ليس لقبًا رسميًا واردًا في النصوص القانونية أو الوثائق التأسيسية للاتفاقية، لكنه موثق ومستخدم فعليًا في أدبيات الأمم المتحدة والدراسات العلمية المرتبطة ببرامجها، المنُشورة في مجلات محكّمة.
• على سبيل المثال، هناك دراسة بهذا الوصف للباحث ريتشارد توماس من جامعة الأمم المتحدة – معهد المياه والبيئة والصحة في عام 2008، بعنوان: Desertification: The ‘Poor Little Sister’ of Rio – Policy Lessons from the UNCCD.
• اللقب هو كناية عن التهميش المزمن للاتفاقية مقارنةً بشقيقتيها الجذابتين الأخرين. فبينما يحظى تغيّر المناخ بالأضواء والتمويل، ويُحتفى بالتنوع الأحيائي في المحافل العلمية، يظل التصحر على هامش الاهتمام، رغم كونه يمس حياة الملايين.
• تهميش الاتفاقية حدث منذ البداية، ففي حين تم اعتماد شقيقتيها، تغير المناخ والتنوع الحيوي، في مؤتمر قمة ريو 1992، كاتفاقيات بيئية رئيسة وملزمة قانوناً لتوجيه النُهَج المستقبلية للتنمية، تم إلحاقها بهما إلحاقاً، في اليوم السابع عشر من يونيو 1994، الذي اعتبر يوماً عالمياً للتصحر، لتصبح ثالث.
• بالرغم من أن التصحر هو قضية فقر وتنمية، وسبب مباشر للهجرة والنزوح، ومحفز لصراعات محلية على الموارد إلا أن اتفاقيته كثيراً ما تُعامل باعتبارها “الأقل شأناً” بين الشقيقات الثلاثة، من حيث التمويل، ضعف الالتزام، وتُركّز في الغالب على دول الجنوب الفقيرة.
• في المقابل ظلت اتفاقية تغير المناخ تحظى بالاهتمام الأكبر، وارتبطت بقضايا الطاقة والاقتصاد العالمي. كما نالت اتفاقية التنوع الحيوي نصيباً محترماً بسبب اهتمام الدول بالتنوع الجيني والبيولوجي لأغراض بحثية وتجارية.
• من مظاهر تهميش التصحر، أن أقل صناديق الدعم البيئي تمويلاً هي تلك المخصّصة له. والتغطية الإعلامية المحدودة، قليلون هم الذين يسمعون بمؤتمرات أطراف الاتفاقية. والحضور السياسي الخافت إذ في العادة يحضرها موظفو وزارات الزراعة أو البيئة من دون تمثيل وزاري رفيع. هذا مه قلة الدراسات، حتى في الأوساط الأكاديمية، نادراً ما تكون قضايا التصحر محورية.
• وبالرغم من تكامل هذه الاتفاقيات الثلاثة في سعيها نحو حماية البيئة العالمية، تبقى اتفاقية مكافحة التصحر الحلقة الأضعف لارتباطها بقضايا الفقر والتدهور البيئي في دول الجنوب الفقيرة، ولا تتصل بقضايا الاقتصاد العالمي أو التكنولوجيات المتقدمة التي تستقطب التمويل والاهتمام.
• كما ظلت اتفاقية التصحر تعاني من ضعف في مؤشرات التمويل والمبادرات السياسية، إضافة إلى قلة حضورها في الإعلام وفي أجندات صانعي القرار مقارنة بشقيقتيها الأخرين.
• رغم هذا التهميش، فإن التصحر ليس قضية هامشية، بل هو في صميم قضايا الأمن الغذائي، والهجرة، والنزاعات، ما يجعل آثاره تتقاطع عملياً مع أهداف كل من الاتفاقيتين الأخريين، تغيّر المناخ والتنوع البيولوجي، وإنْ لم يمنح بعد نفس الزخم.
• وهكذا، بقيت “الأخت الصغيرة الفقيرة”، حبيسة الظل، لا لأنها أقل أهمية، بل لأنها وُلدت في تربة الفقر والتهميش.
• لكن الواقع البيئي لا يحتمل هذا النوع من التمييز الانتقائي؛ فالتصحر، بآثاره العميقة من أخطر قضايا القرن.
• فليس من العدل إذن أن نغني للأختين المرفّهتين، ونُهمل الثالثة. بل الواجب أن نمنح “The Poor Little Sister” موقعها المستحق بين شقيقاتها، لا شفقةً، بل إدراكاً لضرورة التكامل والعدالة البيئية.
• وهذا يتطلب أولاً، الاعتراف السياسي الكامل بأهمية التصحر، من خلال رفع مستوى التمثيل في مؤتمرات أطراف اتفاقيته، إلى جانب زيادة التمويل العادل والمستدام ابذي يتناسب مع حجم التحديات، لا سيما في دول الجنوب الفقيرة.
• كما تبرز الحاجة إلى توحيد الجهود البيئية بسياسات ومشروعات تربط بين التصحر والمناخ والتنوع الأحيائي بدلاً من المعالجات المجزأة،
• دعم البحث العلمي وتشجيع الجامعات ومراكز الأبحاث في الشمال والجنوب على دراسة التصحر وآثاره المتعددة.
• أخيراً، لا بد من إعادة إحياء الوعي العام بقضية التصحر، لا لتلحق بشقيقتيها فحسب، بل حتى تكتمل المساواة بينهن، وتستوي في أعيننا كما استوت التلاتة بنات في عين مغني الروصيرص الذي فاته الباص.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتحياتي.
عبد العظيم ميرغني
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.