حمور زيادة يكتب : الحياة والموت في الفاشر

زوايا | حمّور زيادة

التقت وسائل إعلام عالمية، في مايو من العام الماضي (2024)، نازحين في مدينة الفاشر بإقليم دارفور. كانت أشهر الشهادات وقتها ما قالته نازحة: “يمكننا أن نأكل الليلة، لكن لا أعرف ما إذا كان يمكننا ذلك غداً”. هذا ملخّص الحالة الإنسانية في أنحاء كثيرة في السودان، لكنّ الفاشر، المحاصرة منذ 2023، تواجه كارثةً أكبر.

تحاول قوات الدعم السريع عبثاً السيطرة على المدينة المكتظّة بالنازحين. تضمّ الفاشر نحو مليوني مواطن، منهم ما يقارب 800 ألف نازح، فرّوا إليها من ويلات الحرب. لكنّ الحرب طاردتهم إلى هناك. وفي أغسطس 2024، نبّهت لجنة مراجعة المجاعة إلى الحال في الفاشر والإقليم المضطرب. اللجنة تابعة للأمم المتحدة، تضم خمسة خبراء في مجالات الصحّة والتغذية والأمن الغذائي، لكنّ الحكومة العسكرية رفضت أي حديث عن مجاعة، رغم تأكيد أكثر من منظّمة دولية (مثل أطباء بلا حدود) سوء الأوضاع الإنسانية. لكن السلطة العسكرية وحلفاءها ينظرون إلى كلّ المؤسّسات الدولية والمجتمع الدولي والإقليمي والمنظمات الحقوقية والإغاثية ووسائل الإعلام العالمية جزءاً من مؤامرة كونية (بالتحالف مع الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني السودانية) ضدّ الجيش السوداني، لتفكيكه وتفتيت البلاد لصالح قوات الدعم السريع.

وكان قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان أرسل شكوى إلى الأمين العام للأمم المتحدة في مايو 2023، يتهم فيها ممثّل الأمين العام ورئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان بتحريض نائبه وصديقه القديم وحليفه محمد حمدان دقلو (حميدتي) على التمرّد. واتهمت قيادات عسكرية مبعوث الأمم المتحدة بالتخطيط لانقلاب تقوم به “الدعم السريع” للاستيلاء على السلطة. وهدّد الجيش بالانسحاب من الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، ووجّه انتقادات حادّة للاتحاد الأفريقي، وصرّح قائد الجيش بأن السودان لا يحتاج إلى مساعدة المنظّمة. لذلك تبدو له كلّ التقارير عن المجاعة وانهيار البلاد مجرّد حرب نفسية، ينكرها، ويتهم من يردّدونها.

رغم هذا الإنكار، تعاني الفاشر من زحف الموت إليها. وما بين حصار “الدعم السريع” المدينة وقصفها المدنيين، ينهش الجوع السكّان والمدافعين عن أنفسهم وأسرهم. وبينما تحاول المنظّمات الدولية توصيل الغذاء إلى المحاصرين داخل المدينة المنكوبة، تواجه قوافل المعونات بطش الحرب.

في بداية شهر يونيو الجاري، تعرّضت قافلة مساعدات أممية للقصف وهي تنقل الغذاء إلى الفاشر. اتهم طرفا الحرب بعضهما بعضاً بمهاجمة شاحنات المعونات والتسبّب في مقتل خمسة من الموظّفين. طالب الأمين العام للأمم المتحدة بتحقيق عاجل، لكنّ الرجل نفسه يعرف أن أحداً لا يستجيب. مثل ما تجاهلت “الدعم السريع” قرار مجلس الأمن في يونيو 2024 بفكّ الحصار عن المدينة، سيجرى تجاهل الحادثة، ولن يجد المجتمع الدولي قدرةً على الردّ إلا بمزيد من العقوبات، بينما تعاني المنظّمات الدولية من عدم توافر التمويل المطلوب لتقديم العون الإنساني اللازم للمحتاجين.

لم تكن هذه الحادثة الوحيدة، فقد قصفت قوات الدعم السريع مباني منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) في الفاشر. تشهد المدينة نقصاً حادّاً في الغذاء، واضطر المواطنون منذ شهور لأكل أوراق الشجر والمخلّفات، بينما خُرّبت المستشفيات ودمّرت من جراء القصف، وانعدمت مياه الشرب النظيفة. لكنّ المدينة (رغم الجوع) لا تسقط. تبقى صامدةً في وجه الحصار والقذائف والهجوم، لكن بلا أمل واضح في الأفق حتى الآن، بل ممّا يثير القلق هو تحرّكات “الدعم السريع” لفتح طريق إمدادٍ من الجنوب الليبي بعد سيطرتها على منطقة المثلّث في الحدود السودانية المصرية الليبية، فبهذه السيطرة، أصبح طريق الإمداد الجديد نحو الفاشر، المحاصرة، مفتوحاً أمام المليشيا.

تربك الفاشر حسابات “الدعم السريع” وحلفائها في تحالف تأسيس. فالمدينة آخر المدن الكُبرى صموداً في إقليم دارفور، ويعجز تحالف تأسيس أن يعلن حكومةً، بينما تطعن الفاشر في خاصرته. ليس هذا وحده سبب تأخير التحالف إعلان حكومته، لكنّه سبب مهم، فبشكل ما أصبحت المدينة المنكوبة هي القشّة الأخيرة التي تحول بين البلد الكبير وانقسام جديد.

الموت الذي يأكل الفاشر قطعة قطعة يأكل وحدة السودان الهشّة، وتقترب البلاد من نقطة الصفر، إذ تصبح وحدة التراب السوداني مجرّد حلم عزيز. البلد الذي أدمن الاقتتال الداخلي منذ استقلاله، ربّما يخوض حربه الأهلية الأخيرة.

نقلا عن – العربي الجديد


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *