مصعب رشاش يكتب : العودة إلى الخرطوم .. الظروف و الشروط 

مصعب الريح رشاش

Rushash72@gmail.com

منذ شهور ظللت أتابع حركة بيع و شراء العقارات في ولاية الخرطوم على منصات الإعلام الاجتماعي و المنصات الإعلانية المهتمة بشراء و بيع العقارات . لاحظت كثافة عروض البيع . و المثير في الأمر هو سيطرة عروض بيع الفلل و البنايات متعددة الطوابق . و عند استفتاء بعض المختصين و المهندسين الاستشاريين المهتمين بسوق العقارات , تم التأكيد على انتشار الظاهرة بل و أكد بعضهم أن سعر العقارات هبط في بعض المناطق إلى أقل من ثلث سعرها قبل الحرب .

إن الأمر يحتاج دراسة علمية دقيقة لأجل التخطيط لمستقبل حاضرة البلاد التي لم تر التخطيط طيلة عمرها الوطني المديد . فغالب مدن و أحياء ولاية الخرطوم ولدت نتيجة معالجات قسرية و عمليات جراحية اضطرارية أجريت على أحياء عشوائية سبقت التخطيط أو قرى قديمة تمددت إليها أذرع المدينة فحولت هدوءها إلى صخب و فوضى لا تطاق .

فيما يلي من سطور سنتناول فرضيات عديدة تتعلق بتفسير ظاهرة كثافة عروض بيع العقارات علاوة على محاولة قراءة مستقبل الحياة في ولاية الخرطوم :

أولاً : عمليات النهب و التدمير الواسعة التي حدثت في العاصمة أفقدت معظم المواطنين أصولهم الجارية مثل البضائع و مخزونات المواد الأولية و المدخرات النقدية التي كانت تمثل رأسمالاً عاملاً يدر لهم دخلاً يؤمن معيشتهم . بل و فقد بعضهم أصولهم الاستثمارية من معدات و ماكينات و آليات و سيارات فلم يعد أمام الناس سبيلاً للحصول على رأس مال لبداية حياة جديدة إلا بتسييل العقارات .

ثانياً : إن السودانيين الذين فروا الى خارج البلاد بعد نشوب الحرب استطاعوا خلال عامين من اللجوء تكوين فكرة جيدة عن حياة الشعوب من حولنا و عقدوا المقارنة بينها و بين حياتهم في بلدهم الأصلي . و بما أن معظم النازحين لجأوا إلى جمهورية مصر , فقد فاجأتهم سهولة و رغد العيش و ارتفاع مستوى جودة الحياة . فالمال الذي تنفقه الأسرة لإيجار شقة في القاهرة و تصرف منه على خدمات الماء و الكهرباء و غاز الطبخ و حتى الطعام خلال شهر كامل , تحتاج إلى ضعفه ثلاث مرات لأجل إيجار منزل فقط في مدن السودان الكبرى رغم ضعف الخدمات الضرورية و هشاشة البنيات التحتية و غياب الضمانات .

و لذلك قرر الكثيرون من ملاك العقارات في السودان بيعها و استبدالها بشقق في مصر يمكن استخدام بعضها للسكن و ايجار الفائض منها بأموال تكفي لتأمين معاش هادئ و مستقر مع وفرة الخدمات الجيدة على بعد خطوات قليلة من مكان السكن .

ثالثاً : الأسر الصغيرة و العائلات متوسطة الحجم التي ما زالت تضمن دخلاً شهرياً ثابتاً في حدود خمسمائة دولار ستجد أن خيار البقاء في مصر أو يوغندا أو رواندا خياراُ أفضل من الوجهة الإقتصادية أولاً و من وجهة مستوى جودة الحياة بشكل عام . و هناك عامل آخر حاسم في قرار البقاء في الخارج و هو راحة البال من التكلفة الاجتماعية الباهظة التي ظل السودانيون يدفعونها على حساب التخطيط الجيد للموارد و الاستخدام الأمثل للوقت . تلك التكلفة الثقيلة المتمثلة في العادات و التقاليد الاجتماعية التي تهدر الوقت و تتعارض مع مفاهيم و روح عصر التكنولوجيا و السرعة و الإنجاز .

رابعاً : هناك الملايين من سكان العشوائيات و المناطق الطرفية النائية في العاصمة ممن كانوا يشتغلون عمالاً و موظفين في مؤسسات خاصة لم تعد موجودة الآن و مثلهم ممن كانوا يمارسون أعمالاً يومية و حرف يدوية حرة لا يغطيها أي شكل من أشكال الضمان الاجتماعي أو الصحي . أولئك الذين ظلوا لسنوات طويلة يغادرون منازلهم بعيد صلاة الصبح و لا يعودون إلى عائلاتهم إلا عشاءً و عيونهم مجروحة الأغوار ذابلة البريق . و الذين ظلوا يطحنون سنوات العمر من أجل مستقبل أفضل و لم يجدوه رغم مرور السنوات و كانوا يتجرعون مرارة الصبر من أجل الحصول على الخدمات الأساسية الجيدة دون أن تتحسن ظروف معيشتهم أو ترتقي حياتهم إلى الأفضل . معظم هؤلاء ممن فروا إلى قراهم و مواطنهم الأصلية و كيفوا أنفسهم على العيش وسط أهلهم خلال أكثر من عامين , سوف يترددون كثيراً في العودة مجدداً إلى العاصمة .

خامساً : الاستقطاب الحاد و الإعلام السلبي و خطاب الكراهية الذي ساد خلال الحرب إن لم تقابله خطة وطنية عاجلة لإشاعة السلام الاجتماعي , سيجعل مجموعات اثنية كثيرة تتردد في العودة إلى العاصمة مجدداً و استئناف حياتها هناك .

إن ما قصدته من إثارة تلك الفرضيات هو أن ندخل نحن السودانيون إلى المرحلة المقبلة بوعي شامل بالمتغيرات التي أحدثتها هذه الحرب اللعينة . و بالتالي يجب أن ندرك جيداً أن الخرطوم سوف لن تعود إلى وضعها الذي كانت عليه قبل الحرب بشكل تلقائي . إذن ما العمل ؟

بحسب ما أرى فإن أعمال الحكومة الروتينية في توفير الخدمات الأساسية بما تيسر من امكانيات و حسب الظروف , لا تمثل ضماناً حاسماً لعودة المواطنين إلى بيوتهم . فالأمر أكثر تعقيداً من ذلك بكثير و التحدي كبير . فلذلك اقترح الآتي :

أولاً : تأسيس هيئات و مفوضيات عليا من متخصصين فنيين و إداريين بمؤهلات غير نمطية و إمكانيات مالية كبيرة لتوفير دراسات و خطط لإعادة إعمار الخرطوم و إنشاء فروع لتلك المؤسسات في الولايات التي يرجح أن تستقر فيها مجموعات كبيرة من النازحين .

ثانياً : تخصيص موارد مقدرة , معلومة و ومدروسة من الناتج المحلي الإجمالي للخدمات و التنمية لانعاش الإقتصاد الوطني الذي فقد ثلث قيمته خلال الحرب . و ارتفعت على اثر ذلك نسبة البطالة إلى 49.59 % مما جعل السودان الدولة الأولى في العالم من حيث ارتفاع نسبة البطالة بحسب تقديرات البنك الدولي للعام 2024 .

ثالثاً : تأهيل و تمويل الشركات و بيوت الخبرة الوطنية للقيام بعمليات الإعمار و إعادة التأهيل بدلاً عن الشركات الأجنبية و ذلك من أجل توفير فرص عمل للمواطنين و إنعاش قطاع مهم من قطاعات الإقتصاد الوطني .

رابعاً : توجيه طاقات المصارف و مؤسسات التمويل الوطنية لتمويل الاستثمارات و الأعمال الصغيرة و مشاركة القطاعات الإنتاجية الكبيرة في إعادة التأهيل و العودة السريعة إلى الإنتاج .

سادسا ؛ اعادة هيكلة الاقتصاد الوطني . هيكلة تقوم على تخفيض الجمارك و الضرائب و الرسوم الحكومية العالية و المتعددة و كل الظروف التي كانت كانت سببا في ارتفاع تكلفة الحياة في السودان رغم اشتداد الفقر المدقع الذي و صلت نسبته إلى ٧١ ٪ من السكان .. فما الذي يجعل سعر طن الاسمنت مثلا في مصر و السعودية يتراوح ما بين ٤٠ إلى ٦٠ دولارا في حين أن سعر طن الاسمنت في السودان تجاوز ٢٠٠ دولار ؟

سابعا : اعتماد سياسة نقدية صارمة و حكيمة لإيقاف تدهور سعر صرف العملة النقدية المتسارع . فالان مع اقتراب بلوغ سعر الدولار محطة الثلاثة الف جنيه فإن متوسط مرتبات موظفي الدولة بات أقل من ٥٠ دولارا في الشهر . و هذا مؤشر اقتصادي في غاية الخطورة . فهذا المرتب بالكاد يكفي أسرة متوسطة الحجم لتوفير طعام لمدة أربعة أيام في الشهر فضلا عن مصروفات الكهرباء و الماء و الغاز و التنقل و التعليم و الكساء ز الدواء ووووو غير ذلك من النفقات الضرورية ..


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *