د. خالد البلولة
في عام 2009، وفي برمجة خاصة بعيد الأضحى المبارك، أعددنا برنامج (ناس من دنيا)، وفكرته استضافة شخصيات منتقاة من برنامج دنيا بقناة السودان، واستعنا بد. عبد اللطيف البوني، ومن بين هذه الشخصيات العم عبد القادر توتو رحمه الله، وهو ترزي معروف بسوق الموردة، يخيط الأكفان للموتى والبدل للعرسان، يلبسك البدلة وأنت داخل على الحياة الزوجية، ويلبسك الكفن وأنت مغادر للحياة الأبدية.
استرعتني تجربة عبد القادر الطيب توتو في الحياة، إذ وهب جلّ عمره لمساعدة الآخرين دون منٍّ أو أذى، ودون انتظار مقابل من أحد. أذكر أنه جاء لتسجيل الحلقة يوم وفاة شقيقته، ولم يعتذر عن المشاركة!
كان عبد القادر توتو إنسانًا اجتمعت فيه احترافية الصنعة وإنسانية الرجل السوداني الشهم. كان محبًا للخير، ساعيًا فيه بين الناس، وقد لا يعرف ذلك كثيرون. عندما تجالسه، يتسرّب إليك شعور بالرضا واليقين، ومعه تحس بالرهبة والهيبة والأمان والجلال والراحة. فهو رجل حين يخيط لك بدلة عُرسك، يمنحك الأمل والتفاؤل لبدء حياة جديدة عامرة بالمودة، وبعد حين، تجده يخيط كفنًا لشخص يغادر الفانية إلى الأبدية، مفارقة عجيبة…
عُرف عن توتو تجهيز الموتى، من إعداد الأكفان إلى حفر القبور ودفنهم. وقد روى عدة مشاهد في هذا الجانب. قال: في حفر القبور يساعدنا مجموعة من الشباب، وأحيانًا أثناء الحفر نصل إلى قبر قديم، فنجد الجثة كأنها دُفنت بالأمس القريب. وحكى عن موقف مؤثر حين حفر قبرًا جديدًا فصادف قبر فتاة ماتت عروسًا، ووجدها كأنها قد دُفنت حديثًا، بذات هيئتها.
ويحكي توتو أيضًا أنه اعتاد زيارة مستشفى أم درمان كل يوم جمعة، يتفقد فيها أحوال المرضى، ويجود بما تيسر. فمن خلال هذه الزيارات، يتعرّف على ظروف الناس القاسية، من يتوجّع من مرضٍ عضال، ومن يحتاج إلى جرعة أوكسجين، وآخر يعجز عن شراء دواء. ويقول توتو حينها: “تدرك النِّعَم التي أنت فيها، وتحمد الله كثيرًا”.
تقول إحسان عيسى: “يأتي إلى بيت العزاء حاملًا الكفن، يشارك في التشييع، ويظل مع أهل الفقيد حتى اللحظة الأخيرة، كان رجلًا كريمًا بحق، لا يعرف للأنانية طريقًا. كم من أسرة فقيرة وقف إلى جانبها؟ وكم من طالب فصل له الزي المدرسي مجانًا، ويشتري القماش من حرّ ماله؟ كان يطوف بنفسه على المدارس، يسأل المديرات والمديرين عن عدد الطلاب المتعففين، ويتفق مع صاحب البوفيه أن يقدّم لهم الإفطار دون أن يُخبرهم بمن تكفّل به، ويعود في نهاية الشهر ليدفع المبلغ المستحق بنفسه، في صمت ونُبل نادر”.
ومن نعم الله على عباده أن يرزقهم أبناء بررة، خاصة البنات، فهنّ رحمة عظيمة ونعمة كبيرة. ويروي توتو في برنامج (ناس من دنيا) أنه ذهب إلى مكة معتمرًا، ومكث هناك قرابة الشهر، فاتصلت به إحدى بناته وسألته: “متى ترجع؟” فقال لها: “قريبًا بإذن الله”، وأردف متسائلًا: “خير إن شاء الله؟” فقالت: “خطبنا لك امرأة، تُؤنس وحدتك بعد وفاة أمّنا!!”
فقال لها (مازحًا): “ومن التي ترضى برجلٍ عجوزٍ مثلي؟! هذا أمر يحتاج إلى ترتيب، وهناك التزامات معروفة”، وظننت أن الأمر مجرد دعابة… فإذا بها تقول لي: “يا أبوي، المهر جاهز، والشيلة اشتريناها، والعروس وافقت، إذا أنت موافق؟” قال لها: “إذا هو اختياركم، فلا مانع، فمن هي؟”
قالت: “موظفة تعمل في بنك، استقالت من عملها، وهي ترغب في بناء أسرة واستقرار”. فقلت لها: “بركة الله”، وبعد عودته من العمرة، أكمل مراسم الزواج.
تُعدّ تجربة عبد القادر توتو (رحمه الله) جديرة بأن نتأملها ونعتبر بها. فقد عاش حياته من أجل قيمة إنسانية عالية، وبذل في سبيلها وقته وجهده وماله، وبهذا الصنيع، يُعدّ نجمًا بازغًا في سماء أهل السودان، وهي تجربة ملهمة لأهل الإعلام والدراما وكتّاب الوثائقيات. فعليهم أن يبحثوا عن أمثال توتو الذين يجسّدون قيم التعاضد والتكافل والإيثار في المجتمع السوداني، ونحن الآن في أمسّ الحاجة إلى إشاعة هذه القيم، من أناسٍ بسطاء، يؤثرون على أنفسهم ولو بهم خصاصة، وما أكثرهم في مجتمعنا السوداني.
وشاءت إرادة المولى أن يرحل عم توتو، الرجل الإنسان، في طريقه إلى مدينة مكة المكرمة، قادمًا من المدينة المنورة.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.