الطيب عبدالماجد يكتب
يا الأوصفوك
(درويش) الأغنية السودانية، و(كروانها) الهائم… (المُصنَّف) خضر بشير.
علامة مسجلة، وفنان ليس له نسخة أخرى…
بصم بالعشرة في سِفر الغناء السوداني،
وأحد عشر كوكباً يتحرك الرجل في مداراتها،
ساطعاً، مبهراً، وسيّالاً…
(خضر بشير) بيغني لنفسه أولاً،
لكن بعد داك بياخدنا معاه في رحلة من الطرب والتطريب،
لعوالم استثنائية،
فالرجل مسكون بالإبداع،
ممتلئ بالطاقة،
محتشد بالجمال…
يتحرك في براحات صوته كيف ما داير،
وبيعيش الأغنية زي ما يقوده إحساسه،
لحدي التقمّص ودرجة الذوبان…
وما عندو حاجة لي زول…
بس نحن عندنا ليهو محبة خاصة،
وبنحب غناهو،
و”ملحقاتو”…
“وعلى الجمال العادي راحو يمثلوك”
الأغنية دي غناها فنّانين كُتار،
لكن أظن إنها هي ذاتها بتحب خضر بشير…
ولو بادلوك عين الحقيقة،
أو بالبصيرة تأملوك،
بالنور، أو بالنار،
أو بي قدر ما صاغ الخيال،
ما عادلوك،
يا جميل…
لو أنصفوك.
وقد أنصفنا خضر بشير، وأنصف نفسو في أدائها،
بشكل مُبهر وإحساس عالي،
ساقا بي فوق، وبي تحت،
ونقل لينا على الهوا صورة وصوت وحركة وإحساس…
وده البنعرفو بـ(الدفع الرباعي)…
مش بقول ليك: “ولم يتم تحديد الجهة التي تقف وراء هذه العملية، لكنها تحمل بصمات القاعدة”؟
أها، الأغنية دي بتحمل بصمات (عتيق)…
وجيناتو ذاتا!!
ومن غيرو يكتب…
“كوكب منزَّه في علوك،
سحرك قريب، شخصك بعيد،
أو كان قريب، أنوارو آخدة بدون سلوك،
يبرق هناك، في غيهب الليل الحلوك،
أظرف شمائلك زاملوك،
وهم أكملوك…
يا جميل”
(الحلوك) دي (ابن المقفع) ما قالا!
“حُلوك” اسم، والمصدر “حَلَكَ”
ناس عتيق، المصدر ذاته خلو… دخلوا جوّه!
دا الشاعر لما يكون استشاري المسالك اللغوية والباطنية!
اتفسّح فيها (خضر بشير) زي ما داير،
وانتقل من مناطق (الضغط العالي) إلى (المنخفض)،
بسلاسة بيحسده عليها الطيارون،
ونحن رابطين الأحزمة،
وسايقا “بشير”…
وأدبك هبة فيك موهبة،
شكل الظِبا وطبع الملوك،
يا جميل، لو أنصفوك…
فأنى لنا أن ننصفك يا كبير؟!
(خضر بشير) و(محمد بشير) لقاء معتّق،
عالي التركيز والنقاء،
والنتيجة؟ نووي.
فلله دَركما على هذا المنتج الفاخر
من مصنع الحب: (بشير إخوان)
و”أنوارو آخدة بدون سلوك”
(خضر بشير) استطاع بموهبتو الجبّارة
يستأثر باهتمام خاص،
(وبي بنطلون وقميص وبدون كرفتة أحياناً)،
يسرق الكاميرات، ويحتل الأفئدة،
وينزل عبارة “جمال الروح” لأرض الواقع،
لدرجة إنك ما بتعرفو لابس شنو؟
لأنو “بيلبّسك”…
فتسافر مع أغنياتو، والروح،
وسبحان من صوّرك…
ودي واحدة من أغنياتو النواضر…
كتبها عتيق برضو…
“وقبال ما أعرفك،
شعوري إليك يميل،
وفؤادي معاك ذليل،
حازم ما أطرفك،
وباسم ما أظرفك،
وساحر منظرك،
حيّرت البَنظرك…”
والله حيّرتونا إنتو البتشوفو وتوصفو ديل!
ودايماً بتساءل:
(محمد بشير عتيق) دا بكتب الكلام دا في شخص واحد؟
ولا أنا في شخصك، بحترم أشخاص؟
و(خضر بشير) نقلاً: صورة وصوت…
وسبحان من صوّرك…
“وأنا مهما أوصفك،
لا يمكن أنصفك،
يا فاتن، يا جميل…”
ياخ عتيق كتب:
“أرجوك يا نسيم، روح ليهو، وبأشواقي وصرّح ليهو…”
ديل شِدّة ما الله أداهم، بقوا بيرسِلو النسيم!!
والغريبة: بِمشي!!
والأغرب كمان: قول ليه
“مع شغفي وميولي عليه،
في تعذيبي، برتاح ليه!”
غايتو…
وبجيهو راجع (عتيق) دا!!
تشوفو (متكل) كدا تقول (الغنماية) تاكل عشا…
طلع بتعشّى بينا!
نرجع لـ(ساحر شمبات) والدم الشربات: خضر بشير…
وشمبات دي ما بتتكلم كتير،
لكن لما تتكلم، كلاما برا
دواها سِرِّي، وهواها بحري،
وفي شمبات… حليل مجلسنا
وقد أهدتنا “الخُضر”…
و(خضر بشير) عزّال،
يختار من الأغنيات ذات الجَرَس والموال،
بتمطى فيها،
بسوقا بـ”الحلا”،
وقد ترك إرثاً من الحلاوة والطلاوة والجمال…
مرات بعضهم يردّد أغنياتو،
فيكون المعنى الحرفي لـ(السواقة بالخلا)…
وخدعوك، وجرّحوا سمعتك!
وهي واحدة من أغنياتو الكبيرة:
وخدعوك، وجرحوا سمعتك،
نور وجنتيك طَفَّن مذارف دَمعَتك،
وين لونك الذهبي؟ ونضارة لمعتك؟
كانت قلوب تخشى، وتهاب من روعتك…
لما فيها (الحوت)… شالا “موزة”،
و(محمود) استثناء كالعادة…
غناها، فاقتَص لخضر،
وحفظ ليهو ماء وجهه،
ونقل الأغنية حيّة للجيل التالت،
عبر أداء عبقري واستلاف بي فهم…
ولا غرابة،
فـ(خضر) فنان،
و(الجان) جان…
وكلاهما إحساس بلا حدود، وموهبة دون سقف…
وأولاد بحري…!
ويا بحري، سر الهوى…
“وكانت قلوب تخشى وتهاب من روعتك…”
لخضر بشير نزعة صوفية لا تخطئها العين،
ولعل دا سر هيامه في مكامن الجمال وعتبات الروح…
لما يغني، وحين ينشد…
وفي الإتين، بغيب وبروح،
بشاغل العاشق الولهان،
ويلمس فيك هوى المجروح…
“وساهر طرفي ما نمتا،
ومن يوم شفتك أعلنتا،
بأني أسير، وسلّمتا،
وبمن سوّاك آمنتا…”
(تبارك الله!)
إنسان ولا من الحور؟
وجيت من الجِنان فلتة؟
قابلت الأسود في الغاب؟
أبداً ما تراجعتا؟
هواك صرعني، رماني،
هزمني، وصدّع أركاني…
والأعجب: كمان خِفتا!
قدِر على (الأسود)…
جاهو البواسي (الحدود)
(ياهو البخوِّف…)
لاقى (إبراهيم العبادي) الحقيبة
في ملحمة شعرية مكتملة الأركان…
خرج فيها (بشير) من الصندوق،
و(العبادي) نزل مظلي!
وبرضي ليك المولى الموالي،
وفيك لازم الصبر الجميل…
ينفصل فيها (الماكوك) خضر بشير عن ذاتو،
ويهيم فوق الجاذبية،
وينقلنا معاه في رحلة إلى القمر…
ناس العبادي ديل وصلوا هناك قبل الأمريكان!
وياسما الغايات، يا ملاكا،
ومن تطاول لي نيل علاكا،
عِشت دوم، يا حلية حلاكا،
يا حياة أنفسنا وهلاكا،
لو صليت في النار ما سلاكا،
قلبي راضي، وهاك الدليل…
يازول، دليل ذاتو ما دايرنو…
نحن معاك شايفنو!
جمري قايد، وأنا روحي هادي،
لي خروجا، فضّل القليل،
يا الفراقك لي كياني هادي،
مني ليك الشكر الجزيل…
(أول مرة نشوف خراج روح مُتلفز!)
قال لي: هاك أقوالاً مُصيبة،
كل نفساً توجد نصيبا،
واليصيبا، المولى اليصيبا،
بالقدر كم عزّ الذليل،
كم ربوعاً أجدب خصيبا،
وما في فجرا ما عقبو ليل،
المكارم خلقي الجميلة،
والمحامد سالك سبيلا،
ودايماً شارب من سلسبيلا،
من أخاير أخير قبيلة،
ومن أعالي العايلة النبيلة،
كل صميماً لصميم بديل،
والليالي حينا وقبيلة،
للجلل معدود الجليل…”
لكن معقول يا العبادي؟
والله ما معقول!!
دا حب؟
ولا إيمان؟
ولا تأمّل؟
ولا استدلال؟
ولا دا شنو دا؟؟
(واضح إنو دا كلو)…!!
المشكلة في خضر بشير… البترجم “المطرة” دي…
والبَرِق: عبادي
ولا غرو في ذلك،
فـ”الخُضر” صوفي، هائم في ملكوت الله،
لا يملك في الدنيا سوى قلبه الأبيض،
وروحه العذبة،
وصوته الغريِّد…
طلاوة وبهاء…
في دنيا لا يملكها،
من يملكها…
أغنى سادتها: الفقراء.
غنّى خضر بشير… فتجلّى،
وأطرب،
عذّبنا بصوتو، وتعذّب،
هام في مسارب الضياء،
وفي العمق، أجزل ونقّب…
الروح مليانة، والصوت أعذب…
عندما ينشد (مباشر)،
يتضاعف الدفق…
وبه نتجمّل.
ما أجمله حين يغني…
وما أرفعه حين تبتّل…
وجلّ جلاله،
لا له شريك،
ولا له مثال،
الله.
ينقلك في لحظات إلى جلال الوحدانية،
وسموّ الروح،
والاستغراق في الملكوت…
فتغشاك سكينة،
ويلفك يقين…
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.