يوسف الصديق.. حين يصبح المعلم هدفًا في ساحة الحرب

في معتقلات مغلقة على الحقيقة، توارى صوت التعليم تحت صليل الرصاص

الخرطوم – شبكة – الخبر – في أحد أحياء جنوب الحزام بالعاصمة السودانية الخرطوم، حيث الحرب تحوّلت إلى شبح يومي، اختفى المعلم يوسف الصديق من أمام تلاميذه ورفاقه النقابيين، ليظهر لاحقًا في بيان نعي، لا في قاعة درس ولا منصة احتجاج.

اختفى الرجل، ثم عاد إلينا اسمه فقط، مرفقًا باتهام صريح من لجنة المعلمين السودانيين بأن قوات الدعم السريع اعتقلته وقتلته داخل أحد معتقلاتها.

لم يكن يوسف الصديق مجرد موظف في مكتب تعليم المرحلة الابتدائية بوحدة الأزهري، بل كان أحد أعمدة الحركة النقابية في قطاع التعليم، عُرف عنه نشاطه في الدفاع عن حقوق المعلمين وحرصه على استمرار العملية التعليمية حتى في أحلك الظروف. يقول زملاؤه إنه لم يكن يتأخر يومًا عن وقفة احتجاجية، أو اجتماع تنظيمي، أو حتى جلسة حوار مع أولياء الأمور في الأحياء الشعبية.

لكن الحرب التي اندلعت بين الجيش والدعم السريع في أبريل 2023، لم تترك لأمثال يوسف مساحة للحلم أو حتى للحياد. وبحسب لجنة المعلمين، فقد جرى اعتقاله من قبل عناصر الدعم السريع في منطقة جنوب الحزام، حيث تنشط هذه القوات بكثافة، ومنذ لحظة احتجازه لم يُعرف عن مكانه شيء حتى تم تأكيد وفاته داخل أحد مراكز الاعتقال.

موت بطيء داخل المعتقلات

البيان الذي أصدرته لجنة المعلمين لم يأت كمرثية فحسب، بل كمرافعة اتهام. حمل في طيّاته إدانة صريحة لما سمّته “سلسلة من الجرائم التي ترتكبها قوات الدعم السريع، لا سيما في ملف المعتقلين”. وقالت اللجنة إن ما يجري داخل مراكز الاعتقال أشبه بـ”الموت البطيء”، حيث تنعدم أبسط شروط الحياة والكرامة.

وفي ظل الغموض الذي يلف مصير عدد من المعلمين والنشطاء النقابيين، طالبت اللجنة الجهات المحلية والدولية المعنية بحقوق الإنسان بالتدخل العاجل، للتحقيق في الانتهاكات، وتوثيقها، ودفع المجتمع الدولي إلى تصنيف هذه الممارسات كـ”جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”.

عندما يصبح صوت المعلم خطراً

رحيل يوسف الصديق داخل المعتقل ليس حادثًا معزولًا. ففي ظل النزاع المحتدم منذ أكثر من عام، تحوّلت المدارس إلى ثكنات، والكوادر التربوية إلى أهداف، إمّا بالقنص أو بالاعتقال أو بالتهجير. ويبدو أن النشاط النقابي في مجال التعليم بات يُنظر إليه كفعل مقاومة، لا كجزء من عملية إصلاح مدني.

ويؤكد ناشطون حقوقيون أن استهداف المعلمين والنقابيين ليس جديدًا، لكنه أخذ طابعًا أكثر عنفًا ومنهجية في ظل الحرب الراهنة، لا سيما في مناطق نفوذ الدعم السريع.

أصوات لا يجب أن تختفي

بين طاولات الدراسة التي تكسّرت، والسبورات التي علاها الغبار، يظل اسم يوسف الصديق محفورًا في ذاكرة زملائه وطلابه. رجل لم يحمل سلاحًا، بل طباشيرًا، ولم يرفع شعارًا حزبيًا، بل نادى بالحق في التعليم المجاني والكرامة الوظيفية.

ورغم أن صوته قد أسكته المعتقل، إلا أن قضيته أصبحت – كما تقول اللجنة – صرخة ضمير لن تسقط بالتقادم.

تختم اللجنة بيانها بالقول إن “صمت قوات الدعم السريع على النداءات المتكررة بشأن المختفين قسرًا، إنما يؤكد أن هذه الانتهاكات تتم بشكل ممنهج ومقصود”، وتحمّل القوة المسؤولية الكاملة عن سلامة المعلمين المعتقلين، وتدعو إلى تحقيق مستقل وعاجل.

المعلم الذي غاب جسدًا، لم يغب قضية.

يوسف الصديق ليس مجرد اسم في بيان نعي، بل شاهد جديد على كلفة الحرب حين تطحن كل ما تبقى من مدنية الدولة.

في هذا المشهد السوداني المنكوب، يبدو أن أقلام المعلمين أصبحت تُصنّف كأدوات تمرد، وأن الحلم بالتعليم وسط الركام، صار جريمة عقوبتها الموت في المعتقل.


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *