الخرطوم : مصعب محمد علي
في زمن الحرب ولحظات التحوّل العاصفة، لا تسقط المدن فقط، بل تسقط معها الأسماء والصفات والتعريفات التي شكّلت يومًا ملامح الإنسان. في السودان، ومنذ اندلاع الحرب، لم تكن الخسارة الكبرى في الأرض ولا في الخرائط، بل في المعنى. ذلك الذي جعل من الطبيب طبيبًا، ومن المهندس مهندسًا، ومن الأستاذ أستاذًا.
مع انهيار الدولة وتفكك مؤسساتها، يجد الإنسان نفسه في مواجهة فقدٍ عميق، لا يقتصر على الجوع أو التشرد، بل يمتد إلى الهوية الوظيفية. تلك الهوية التي كانت، يومًا، علاقة حية بالزمن، بالذات، وبالمجتمع.
تاريخ السودانيين حافل بالتقلبات، بأنظمة تأتي وتزول، لكن ما يحدث اليوم يتجاوز السياسة. إنه تفكك كامل في بنية المعنى. المهنة لم تعد امتدادًا للذات، بل صارت ذكرى ثقيلة، تختبئ خلف سؤال بسيط وصادم: “كنت شغال شنو؟”
لكن رغم هذا الانهيار، لم يكن السوداني مجرد متلقٍ للهزيمة. على حافة الانكسار، أعاد تشكيل ذاته بوسائل مؤقتة ومؤلمة. نشأت مهن من العدم، وتشكلت هويات بديلة، لا تقوم على الألقاب، بل على الصبر والصمود.
في شرق النيل، حين تذبل الحياة في زمن الحرب كما تذبل أوراق الأشجار في قيظٍ طويل، يسير رجل بقامة متوسطة وخطى ثابتة، يوزع الماء . يمر أمام البيوت المتربة، يطرق الأبواب بصمت، يسلّم بابتسامة مقتضبة، ثم يواصل طريقه.
قليلون يعرفون أن هذا الرجل، الذي ينادونه ببساطة: “ماسا بتاع الموية”، كان يومًا ما يُعرف بـ “الأستاذ خالد ماسا”، أحد أبرز الصحفيين السودانيين، ممن تدرّبوا على فن صناعة الخبر، وتحليل الخطاب، وقراءة ما بين السطور. في غرف التحرير التي باتت مهجورة، كانت أصابعه تكتب، وعيناه ترصدان، وعقله منشغل بالسؤال الأزلي: عن الحقيقة؟
لكن الحرب، كالعادة، لا تستأذن. ولا تستبقي كرامة لمهنة. ومع دخول الخرطوم في متاهات الخراب، سقطت الصحافة كأول ضحايا المشهد. باتت الصحيفة خطرًا، والمقال تهمة، وانقطع الطريق إلى المطبعة يقول ماسا: “في زمن الحرب ولدت صحافة ماتت معها الحقيقة .
عند هذه النقطة، اضطر لأن يعيد ترتيب حياته من الصفر، أو ما دونه. لا مدخرات، لا معاش، لا بديل. فقط جسده، وشبكة علاقاته الشعبية، وكرامة لا تزال تقاوم الانكسار. اختار أن يعمل في نقل المياه، مهنة بسيطة، لكنها نبيلة في جوهرها.
في هذا التحوّل من “الأستاذ” إلى “السقّا”، لم يشعر ماسا بالإهانة. بالعكس، شعر بامتدادٍ أخلاقي بين المهنة التي غادرها، والمهنة التي احتضنته. “الاثنتان تنبعان من المصدر ذاته”، كما قال، “من رغبة صادقة في خدمة الناس، في التماس احتياجاتهم، في أن تكون وسطهم ومعهم”.
بمشيه بين الأزقة، أصبح شاهدًا حيًّا على المأساة. سمع قصص الأرامل اللاتي فقدن أزواجهن في القتال، ورأى الأطفال الذين يبحثون عن حليب لا يُصنع في خطوط المواجهة. تلك القصص، يقول، أغنت رصيده المهني بما لايقاس. “عندما تعيش بين الناس، تصبح الكلمة أثقل، وتصبح الكتابة مسؤوليّة”.
في عمله الجديد ماسا يرى فيه إعادة اكتشاف للذات، يشعر بالفخر والاعتزاز
يراها أخلاقية، وربما تماثل في النقاء تلك التي تركها خلفه مجبرًا.
لكن داخله لا يزال يتوق للعودة إلى قلمه. يدوّن ملاحظات، يحتفظ بالقصص، يعيد صياغة الجمل في ذهنه بينما يملأ برميل الماء. ينتظر ذلك اليوم الذي تعود فيه البلاد إلى السلم، وتعود الكلمة إلى سيرتها الأولى.
يقول، ” سأعود محمّلًا بحكاياتٍ حقيقية، كتبتها قدماي في الارضي المحروقة، وسمعتها أذناي في عزّ العطش”.
في بلد تحوّلت فيه النجاة إلى مهنة، يبقى خالد ماسا درسًا حيًا في الصمود، في البقاء، وفي أن المهنية ليست فقط ما تحمله في بطاقتك، بل ما تبنيه يومًا بعد يوم في ضميرك.
يقول ماسا : في الخرطوم، المدينة التي كانت ذات يوم تعجّ بالصحف والمطابع، تحوّلت مهنة الصحافة إلى شبهة. لم تعد الأوراق تسع الكلمات، ولا الشاشات تتّسع للأصوات. الحرب، بفظاظتها العارية، باغتت الجميع. لكن وقعها على الصحفيين كان أشبه بالرصاصة التي لا تُخطئ القلب: فقدت المهنة معناها، وتحولت إلى عبء ثقيل، وأحيانًا إلى خطر يهدد الحياة نفسهايواصل : منذ أكثر من عقد، اخترتُ الصحافة لا كمهنة فقط، بل كهوية كاملة.
حصلت على أول رخصة مهنية في 2011، لكن انغماسي في هذا المجال بدأ قبل ذلك بكثير. منذ مطلع الألفية، وأنا أتنقّل بين المنتديات الإلكترونية مثل “سودانيز أونلاين”، أكتب، أعلّق، أراكم سلوكًا مهنيًا يتجاوز حدود الورق.
كنتُ أتنقّل بين السياسة والرياضة وحقوق الإنسان. قدّمتُ برامج على الشاشات، وكتبت في الصحف اليومية، وتحدّثت بلسان جيل يحاول إعادة تعريف دوره في وطنٍ يصعب فهمه، لكن يصعب أيضًا التخلّي عنه.
مع الوقت، أصبحت ” الصحافة” جزءًا لا يتجزأ من وجودي. حين يُقدَّم اسمي، تُقال الكلمة قبل كل شيء: “صحفي”. كأنها لقبٌ عائلي لا فكاك منه، حتى حين تحوّلت الصحافة إلى ساحة معركة.
في أبريل 2023، حين دوّت الطلقة الأولى في الخرطوم، كنت هناك. لم أكن أبحث عن “السبق الصحفي”، بل عن تفسير لما يحدث من حولي. فجأة، لم يعد هناك وقت للأسئلة. تحوّلت الكاميرا إلى تهمة، والدَفتر إلى وثيقة إدانة، والانتماء المهني إلى عبء يتوجّب إخفاؤه.
المدينة التي احتضنت البدايات، أصبحت فخًا جغرافيًا. الصحفي الذي لا يغادر بيته إلا متنكّرًا، يكتب محتواه في الخفاء، ويراجع كلماته عشر مرّات قبل أن ينشر، يعرف أن ” المهنة” التي اختارها بحرية، أصبحت قيدًا يصعب الفكاك منه.
يقول :توقّفت المؤسسات، خمدت المطابع، فرّ الزملاء أو اعتُقلوا أو اختفوا في الظلّ. كل محاولة للاستمرار في العمل كانت أشبه بخطوة على جسر من نار. ومع كل ذلك، كان هناك إلحاح داخلي: كيف أتخلى عن صوتي الآن، وأنا ابن المهنة التي تعلّمت منها كيف أنظر للوقائع في عيون الناس.
المعضلة لم تكن أمنية فقط، بل اقتصادية أيضًا. ما الذي يعنيه أن تعيش من مهنة باتت ممنوعة عمليًا؟ كيف تصوغ مصدر دخلك من كلمات أصبحت مهددة بالحذف أو الرصاص؟ ورغم أن بعض المنصات الخارجية لا تزال تمدّ يدًا للصحفيين السودانيين، إلا أن العمل معها من قلب الخرطوم المحاصرة، يوازي القفز في الهواء بدون مظلّة.
الحرب غيّرت كل شيء، لكنها لم تغيّر ما كُتب في الداخل: إن هذه المهنة، بكل ما فيها من وجع، هي أكثر من مجرد وظيفة. هي اختيار، والتزام، وسرديّة شخصية لا يمكن محوها من بطاقة الهوية.
في وطنٍ تعصف به الفوضى، وتُسرق فيه الحقيقة من أفواه أهلها، ما زلت أؤمن بأن الصحافة – رغم هشاشتها – تظل واحدة من آخر ما تبقّى من محاولة لفهم هذا الخراب، ولو بكلمة واحدة مكتوبة في الظل.
في زمنٍ تهاوت فيه القيم، وتكسّرت فيه أعمدة الكرامة الفردية، وجدتُ نفسي مضطرًا إلى تغيير صبغتي المهنية. لم يكن الأمر خيارًا سهلاً، ولا تحولًا ناعمًا، بل كان أقرب إلى الانسلاخ الصامت عن هوية تشكّلت بالعرق والكتابة والالتزام الأخلاقي.
كنت الصحافة، وكانت الصحافة أنا. لكن الحرب حين انفجرت، لم تترك لنا ترف المهنة، ولا حتى متّسعًا للحلم. تغيّرت شروط الحياة نفسها، ومعها تبدّلت الأولويات: أن تؤمّن قوت يومك أصبح أكثر إلحاحًا من كتابة مقال، وأن تنجو من الخطر أهم من الحصول على سبق صحفي.
اخترتُ مهنة جديدة – أبسط، أكثر اتساقًا مع الواقع، وأقلّ عرضة للخطر. في ظاهرها، لا تحمل هالة الصحافة ولا بريقها. لكن في جوهرها، كانت امتدادًا آخر لكرامتي. على فقر الموارد وشحّ الفرص، منحتني هذه المهنة سندًا اقتصاديًا للعائلة، دون الحاجة لمد اليد أو الانكسار أمام أحد.
لم أشعر يومًا بالخجل منها. لم أُجمّلها، لكني لم أزدرِها. لم تكن تقليلاً من ذاتي، بل تمسكًا بشيء منها. كنتُ أمارس العمل باحتراف، وأبني في داخلي طبقة جديدة من الوعي، قادرة على التقاط التفاصيل وسط صخب المعاش اليومي.
ورغم أن الهوية المهنية الجديدة تختلف عن تلك التي طبعت حياتي لسنوات، إلا أنها حفظت لي شيئًا من الاتساق الداخلي، وأبقتني في تماس مباشر مع الناس، مع احتياجاتهم، مع نضالاتهم اليومية.
وضعتني التجربة بين الناس، لا فوقهم. دفعتني لأفهم الحياة من زاوية أخرى، لأتلمّس احتياجات البشر عن قرب، وأصغي إلى همومهم في السوق، لا في قاعة التحرير. وهنا، كانت القصص تتناسل في ذهني: مادة خام تنتظر لحظة العودة، حين تستقيم بيئة العمل الصحفي ويعود الصوت إلى مداه.
ليست خسارة أن تغيّر مهنتك في زمن الحرب. بل قد يكون ذلك ذخيرة معرفية ومهنية جديدة، تثريك حين تعود إلى المهنة الأولى.
الانحدار المهني لا يبدأ من المهنة، بل من احتقارك لها. وأنا لم أحتقر هذا التحوّل، بل رأيت فيه لحظة ضرورة، لحظة بقاء، ولحظة كرامة.
الصحافة قد تعود، وأنا سأعود إليها، محمّلًا بتجربة أعمق، ورؤية أشمل، وكنز من القصص التي لا تُروى إلا حين يبرد جمر الحرب
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.