للمرة الألف، نكرر ونؤكد، بأن الكهرباء ليست رفاهية، وهي العصب الحي لأي مشروع إنقاذ وطني في كوارثنا الماثلة، خاصة في ظل ما نواجهه من تفشي الوبائيات وفي مقدمتها وباء الكوليرا الذي يزحف على الجغرافيا الممزقة والمنهكة من الحرب.
في اقرار نادر، صرحت وزارة الصحة بتفشي الكوليرا، بازدياد كبير في عدد الإصابات بالكوليرا في البلاد حيث سُجلت 2700 إصابة و172 وفاة خلال أسبوع واحد.
كما تظهر تقارير منظمة الصحة العالمية أن العدد التراكمي للإصابات تجاوز 60,000 حالة في عموم البلاد، مع تسجيل أكثر من 1,500 وفاة منذ بداية تفشي الوباء خلال العام 2024 وحتى منتصف 2025.
وتسبب التخريب والضربات بالمسيرات التي قام بها الدعم السريع في خروج شبكة الطاقة ولاحقا المياه المحلية عن الخدمة، بحسب “أطباء بلا حدود”، ما أجبر السكان على اللجوء إلى مصادر المياه غير الآمنة.
الكهرباء ليست مجرد أداة لإنارة (اوضة) أو شحن (الموبايل)، بل هي الأساس لكل عمليات المكافحة والوقاية والعلاج.
إن حفظ العقاقير والمحاليل الوريدية في المشافي والمراكز الصحية يعتمد على ثلاجات تعمل بالكهرباء، وانقطاع التيار يعني فساد الأدوية.
كما أن أعمال الرش بالمبيدات للحد من الذباب الناقل والباعوض المتكاثر في بيئة راكدة تحتاج إلى طاقة لتشغيل المضخات والآلات.
ويرتبط تشغيل غرف الطوارئ وأجهزة التنفس في المستشفيات بوجود تيار كهربائي مستقر.
والاكثر اهمية، محطات تنقية وضخ المياه النظيفة التي تعتمد بالكامل على الكهرباء، وأي انقطاع يعرض مئات الآلاف لخطر الشرب من مصادر ملوثة.
احيانا يثار جدل عقيم حول “الريف بلا كهرباء”، إذ
يحاجج البعض، بأن الناس عاشت في الريف سابقا بلا كهرباء ولم تصب بالأوبئة، وبالطبع هذه المقارنة لا تصمد أمام الواقع، فالريف القديم لم يكن مأهولا بملايين النازحين من المدن الذين فروا من الحرب إلى قرى غير مهيأة، بينما اعداد الذين صمدوا في منطقة الحرب لا تقارن بالذين عادوا إليها بعد زوال الخطر الحربي المباشر.
ومن غير الواقعي أن يدعي أحد بأن الريف افضل بلا كهرباء، بل إن عدم توفر الكهرباء كان عاملا جوهريا في التخلف التنموي.
كما أن طبيعة المعيشة الريفية التقليدية كانت أقل عرضة للتلوث، لكن ما يحدث اليوم هو أن المدينة انفجرت في عمق الريف دون أن تصحبه البنية التحتية اللازمة.
ويضاعف انقطاع الكهرباء في المناطق التي تشهد عودة تدريجية للسكان من أزمة المياه، ويشل مؤسسات الصحة، ويربك كل خطط التعافي من هول الحرب.
ويتوقع أن تتفاقم الأوضاع الصحية مع دخول فصل الخريف.
رغم ذلك تبذل الجهود للتوعية الصحية، ولكن كيف يمكن تنفيذ حملات توعية صحية فعالة في بلد يفتقد غالبية من سكانه في مناطق الحرب أو النزوح لأي تغطية كهربائية منتظمة؟
تعتمد معظم وسائل الإعلام الفعالة على الإنترنت أو التلفاز، بينما أجهزة الراديو ــ التي كانت وسيلة فعالة في الأزمات سابقا ــ أصبحت نادرة، بعد أن اندثرت أجهزة الراديو التي تعمل بالبطاريات.
وقبل التفكير في حملات التوعية، أو حتى في توفير الأسرة داخل المستشفيات، فإن كل خطوة لمواجهة الكوليرا والوبائيات الأخرى تحتاج طاقة، من نقل مياه الشرب، إلى تشغيل آليات النظافة، إلى تبريد الأمصال واللقاحات، إلى ضخ المعلومات الصحية عبر وسائل الإعلام.
إن الحديث عن، الإغاثة، والتعافي، أو حتى العودة الطوعية للنازحين، لن يكون جديا بدون استراتيجية وطنية طارئة لضمان الكهرباء في كل مواقع الخدمة العامة.
هذه ليست قضية فنية أو إدارية فقط، بل قضية حياة أو موت، ورهان على القدرة في إدارة الكارثة بما تبقى من مؤسسات وإرادة.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.