«في حضرة الجمال المنسي» حين تتحوّل الحمير إلى لوحات فنية في كبوشية

كبوشية – بدر الدين الباشا – في قلب السودان، وعلى ضفاف نهر النيل المتدفق، تقف كبوشية كجسر بين الأزمنة، مدينة ترقد على إرث من التاريخ والتقاليد، وتُفاجئ زائرها كل أربعاء بمشهد لا يُرى في أي مكان آخر: صالون لحلاقة الحمير.

بين أزقة السوق الكبير، خلف “سوق الرواكيب” و”سوق العيش”، يعمل الشقيقان بلة حميدة السيد وبدر حميدة في مهنةٍ تبدو، للوهلة الأولى، طريفة أو غرائبية. لكنها، في حقيقتها، فن شعبي نادر، يُمارس بكل حب ودقة، ويعكس ذوقًا رفيعًا موروثًا عن الآباء والأجداد.

الحمار في ثوب جديد

ليست الحلاقة هنا مجرد قصٍّ للشعر، بل طقس جمالي يجعل من الحمار كائنًا جاذبًا للأنظار، مرسومًا بعناية، ومزينًا بتصاميم فنية تمزج بين البساطة والدهشة.

من “الشرافة” إلى “الحفلة” و”الشريط”، تتنوّع الأنماط، وتُنفذ بمنتهى المهارة، فتظهر على جسد الحمار أشكالٌ هندسية من الأهرامات، الدوائر، الأشرطة المتناظرة… وكأن الجسد تحوّل إلى لوحة نابضة بالحياة.

“نبدأ من الجانبين، نمر بالرقبة، نتجنب البطن لحساسيتها، وننهي بالمؤخرة”، يقول بلة حميدة، مضيفًا بابتسامة: “الحمار ما لازم يتوجّع.. لازم يكون مبسوط”.

يُستخدم في الحلاقة مقصّ خاص، وآلة كهربائية، وصريمة توضع في فم الحمار لمنع العض، إلى جانب ربطة خفيفة تقيّده بهدوء. السعر؟ يتراوح بين 15 إلى 65 جنيهًا، وفقًا لنوع الحلاقة وتعقيدها.

الأربعاء.. يوم الحمار المتأنق

في هذا اليوم، تُبعث الحياة في شرايين كبوشية القديمة. يُقبل الناس من الشرق والغرب، من المكنية إلى الصفر، ومن قوز برة إلى أم عشيرة، يحملون معهم الزرع والحطب والضأن والبصل والكوارا، وأيضًا الحمير… لكن ليس للبيع فقط، بل للتجميل!

الأخوان يعبُران النهر فجرًا بـ”الرفّاس”، القارب التقليدي الذي ينقل البشر والحيوانات، لينتصبا خلف السوق، وقد فرشا عدة الحلاقة واستعدا ليومٍ طويل. في بعض الأيام، يحلقان لما يصل إلى عشرين حمارًا.

من الحلاقة إلى التجارة

لا تقتصر الحكاية على الزينة. فالحمار، بعد أن يحظى بـ”تصفيفة” أنيقة، تزيد قيمته في السوق، سواء للبيع أو السباق أو الاستخدام في المشاوير الطويلة.

يتنقل الشقيقان أيضًا إلى أسواق أخرى: المكنية، كلي، قوزبرة… في رحلة أسبوعية تحمل ملامح من البداوة والتجارة والحرفة المندثرة.

شهادات من قلب السوق

يقول الحاج آدم ود الجيلي، أحد زبائن “صالون الحمير”، وهو يربّت على ظهر حماره المزدان بخطوط متقاطعة:

“والله بعد الحلاقة شكلو بقى فرّاش، حتى السعر زاد. الزبائن ديل فنّانين ما ناس ساي”.

أما مريم بت الخليفة، التي جاءت بحمارها من أم علي، فتقول:

“أنا بحلق ليهو كل أسبوعين، عشان يبان نضيف ومرتب. دا زينته وبركته”.

هكذا، في كبوشية، ينزاح الغبار عن الجمال المختبئ في أبسط الكائنات.

يُعامل الحمار، ليس كوسيلة نقل فحسب، بل ككائن له كرامة وجمال وشخصية، تستحق أن تُحترم وتُزيَّن.

وفي زمن تلهث فيه المدن وراء الحداثة، تظل كبوشية تُعلمنا أن في التراب والفطرة، فن لا يزول، وجمال لا يموت.


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *