في آخر إصدار يحمل عنوان (خطة مارشال السودان: إعادة بناء القوة العالمية المنسية)، يقدّم الدكتور كامل إدريس رؤية أكثر تفصيلًا لمستقبل السودان.
يمثّل هذا الكتاب طرحًا أكثر جدّية من مؤلفه السابق (السودان 2025: تقويم المسار وحلم المستقبل)، ويُلاحَظ أن ما جاء في كتابه الأخير هو أن السلام “ليس شرطًا مسبقًا، بل نتيجة”.
في مقاربة تحليلية سابقة، استنادًا إلى كتابه “السودان 2025” الصادر عام 2016، رجّحتُ أن يسعى إدريس إلى التفاوض من أجل إيقاف الحرب، وأن تكون هذه المسألة أولوية ضمن مشروعه، استنادًا إلى قراءتي للراهن في ضوء ذلك الكتاب.
بيد أن قراءة كتابه الأخير تستبعد أن يكون السلام من أولويات مشروع “مارشال السودان”، بل إن فرص اتجاهه نحو تحقيق تسوية وطنية شاملة تبدو محدودة، ما لم يتمكن من تجاوز التصورات التي ترى فيه طرفًا سياسيًّا، لا غطاءً لمشروع عسكري تديره القيادة العسكرية بشكل مستقل أو بتحالف حزبي.
إنّ تاريخ كامل إدريس كوسيط بين الفرقاء السياسيين لا يمكن التعويل عليه بشكل حاسم؛ فقد طرأت متغيرات عميقة على المشهد، أبرزها أن التسوية باتت مرتبطة مباشرة بقضية الحرب.
ففي ظل استمرار القتال، يصبح الحديث عن تسوية سياسية شاملة أمرًا بالغ الصعوبة، إذ تزداد حدة الاستقطابات وتتعمق الانقسامات؛ فالحرب تخلق ديناميكيات جديدة تجعل الأطراف أكثر تمسّكًا بمواقفها، وأقلّ استعدادًا لتقديم تنازلات — لا سيما بعد تحقيق الجيش انتصارات ميدانية، بينما يتمترس الطرف المتقهقر خشية فقدان توازن القوى في أي مساومة سياسية محتملة، ويبحث، في المقابل، عن بدائل سياسية، كما يتجلى في نشوء كيان “التأسيس”، الذي يعكس تشكّل قوى جديدة مرتبطة بالحرب، ما يزيد من تعقيد المشهد ويضيف أبعادًا جديدة لأي تسوية مستقبلية.
ورغم ذلك، فإن لرئيس الوزراء المعيّن فرصة لبناء الثقة عبر إثبات حياديته تجاه الأطراف الحزبية، سواء في تشكيل حكومته أو في ممارساته السلطوية، والبحث عن نقطة انطلاق في ظل انسداد الأفق السياسي — وربما يتحقق ذلك بالتركيز على قضايا إنسانية، أو عبر تدابير لبناء الثقة تمرّر من خلال الإعلام وتغيير الخطاب السياسي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن النقطة المحورية التي ارتكز عليها الكتاب الأخير لكامل إدريس هي العلاقة بين السلام والتنمية؛ إذ يرى أن السلام المستدام في السودان لا يقتصر على غياب الحرب، بل هو نتيجة حتمية ومباشرة لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع من خلال التنمية الاقتصادية الشاملة، والحوكمة الرشيدة التي تضمن العدالة والمشاركة، إلى جانب التكامل الإقليمي الذي يحوّل مناطق التوتر إلى مناطق للتعاون.
ومع أن الكتاب لا يحدّد آليات تحقيق السلام بشكل صريح — فلا يوضح إنْ كان يقصد المفاوضات الثنائية، أم التسوية الوطنية الشاملة، أم انتظار سيطرة الجيش الكاملة على البلاد — فإن جوهر “خطة مارشال السودان” يكمن في الإيمان بأن بناء دولة مزدهرة وعادلة، تستغلّ مواردها وتشرك جميع أبنائها، هو السبيل الأكيد لتحقيق الاستقرار والحدّ من دوافع الصراع.
وعليه، فإن السلام، في رؤية إدريس، ليس شرطًا مسبقًا، بل نتيجة تتحقق من خلال تنفيذ عناصر الخطة نفسها.
يعرض الكتاب المشكلات البنيوية، مستعرضًا إرث الصراع والتحديات التي واجهت الدولة السودانية لعقود، ثم ينتقل إلى طرح حلّ شامل يتمثل في “خطة مارشال السودان”، محدّدًا آليات التنفيذ والتمويل، والتحديات المحتملة وسبل مواجهتها، مع التركيز على دور الفاعلين الدوليين.
في جوهره، يؤكد الكتاب أن الوضع الراهن في السودان غير قابل للاستمرار، وأن اللحظة الحالية تمثّل فرصة تاريخية لا بدّ من اغتنامها لتحقيق التغيير المنشود.
ويرتكز التغيير الذي يدعو إليه الكتاب على ثلاث ركائز أساسية:
1. الاستثمار الاستراتيجي: توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الحيوية مثل الزراعة، والثروات المعدنية، والبنية التحتية، وتنمية رأس المال البشري، لإطلاق العنان للإمكانات الكامنة في البلاد.
2. إصلاح الحوكمة: تطبيق إصلاحات شاملة لإنشاء دولة شفافة، مسؤولة، وديمقراطية، من خلال مكافحة الفساد، وتعزيز سيادة القانون، وبناء مؤسسات قوية.
3. التكامل الإقليمي: تعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية مع دول الجوار، والمشاركة في مشاريع عابرة للحدود لدمج السودان في الاقتصادين الإقليمي والعالمي.
ويتميّز الكتاب برؤيته المتمايزة عن مشروع مارشال الأوروبي المعروف؛ فبينما اعتمد المشروع الأوروبي على المساعدات الخارجية لإعادة بناء ما دمّرته الحرب، تؤكد “خطة مارشال السودان” على قدرة السودان على رسم مساره الخاص نحو الازدهار المستدام، اعتمادًا على موارده الذاتية — من أراضٍ خصبة، وثروات معدنية، وشباب متطلع للتغيير — مع دعوة المجتمع الدولي إلى الانتقال من منطق تقديم المساعدات إلى إقامة شراكات استراتيجية داعمة.
يدعو الكتاب إلى بناء دولة جديدة قوية من الداخل، مستلهمة من تجربة مارشال الأوروبية، لكن متكيفة مع السياق السوداني المتفرّد وتحدياته المعقّدة.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.