أمدرمان ـ شبكة_الخبر ـ في أحد الأزقة الموحلة بحي الصالحة الشرقية، يسير طفل حافي القدمين وهو يحمل برميلاً صغيراً فارغاً.
وجهه شاحب، وملامحه لا تحمل من الطفولة شيئًا سوى الاسم. يبحث عن قطرة ماء.. لا للعب، بل لتنجو أمه التي تعاني من الحمى والإسهال منذ أيام.
في هذه المدينة المنسية، جنوبي أم درمان، باتت الحياة مسرحًا للنجاة اليومية. تحت سيطرة قوات الدعم السريع، تقاوم الصالحة الموت من كل زاوية: الكوليرا من الشرق، العطش من الجنوب، والجوع من كل الاتجاهات.
“كل يوم يمر أشعر أننا نقترب من النهاية”، تقول الطبيبة إسراء، التي ما تزال تحاول تشغيل غرفة إسعافات بسيطة في إحدى العيادات الخاصة. “الناس تموت من الجفاف، من التسمم، من الجروح التي لا تجد ضمادة. العيادات لم تعد أكثر من غرف خاوية، تنتظر معجزة لا تأتي”.
انقطعت المياه منذ أكثر من شهر، بعد توقف التيار الكهربائي. الأهالي باتوا يعتمدون على برك مياه مكشوفة. ومع كل رشفة، تقترب الكوليرا أكثر. الإصابات في ازدياد، والوفيات تتسلل في صمت، دون أن يُسجَّل أحد.
حين يصبح الماء ترفًا قاتلًا
تقول إسراء: “ضعف الاستجابة الصحية وغياب الكوادر ساهما في اتساع رقعة انتشار المرض”. وتتابع: “الأدوية والمحاليل كانت تأتينا عبر طريق الصادرات من جبل أولياء وغرب السودان، أما الآن، فالطريق مقطوع والخوف من المصادرة يمنع الجميع”.
خدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية، مثل “ستارلينك”، لم تعد متاحة إلا في نقاط محدودة تخضع لحراسة مشددة من قوات الدعم السريع. من يريد أن يتحدث إلى العالم، عليه أن يدفع الثمن… أو يصمت.
أسواق بلا حياة.. وجوع تحت التهديد
في سوق أحمد نيالا، كما في هجيليجة والقيعة، كانت الحياة تدب رغم الحرب. الآن، باتت تلك الأسواق شبحًا لما كانت عليه. أبو أمجد، أحد السكان، يقول: “نحن رهائن.. الأسعار نار، والخوف في كل زاوية”.
كيلو السكر بلغ 5 آلاف جنيه، وكيلو الدقيق 4 آلاف، بينما برميل الماء وصل إلى 4 آلاف جنيه. ومع شح السيولة، يعتمد السكان على تحويلات بنكية قد لا تصل، في انتظار خلاص لا يلوح.
محمد جابر، أحد الفارين من الجحيم، يقول بصوت مكسور: “تركت أختي المريضة وأمي المُقعدة.. لم أستطع أخذهم، والطريق أخطر من الموت”.
ورغم هذا الجحيم، لا تهدأ أصوات المدافع في محيط جامعة أم درمان الإسلامية، وأحياء الشقلة والبنك العقاري، حيث يحاول الجيش استعادة الصالحة، آخر معاقل الدعم السريع جنوب أم درمان.
في الصالحة، لا أحد يسأل عن السياسة بعد الآن. السؤال الوحيد: كيف نعيش حتى الغد؟
بين أنياب الوباء، وسطوة السلاح، تبقى الصالحة تنادي بصوتٍ خافت.. علّ أحدًا يسمع.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.