بروفايل – بهاء الدين عيسى
من داخل “خلوة الفكي” في حي بيت المال بأم درمان، بدأت خالدة زاهر مسيرتها التعليمية، متسلّحة بإصرار والدها المعلم زاهر الساداتي، الذي لم يرضَ لها سوى التفوق، رغم أن تعليم البنات في ذلك الزمن كان أمرًا نادرًا ومستنكرًا من المجتمع المحافظ.
كلية كتشنر الطبية
واصلت خالدة دراستها في المدارس الحكومية، متحدية تقاليد سائدة، وممهدة الطريق للفتيات السودانيات في التعليم، إلى أن التحقت بكلية كتشنر الطبية، والتي أصبحت لاحقًا كلية الطب بجامعة الخرطوم. عام 1952، تخرجت كأول طبيبة سودانية، إلى جانب زميلتها الأرمنية السودانية زوري سركسيان، لتسجّل اسمها في التاريخ كرمز لنهضة المرأة السودانية.
أيقونة سياسية
لكن إنجاز خالدة لم يقتصر على المجال الطبي، فقد التحقت بالحزب الشيوعي السوداني عام 1946، بعد أن تعرفت عليه من خلال رفيق دربها عثمان محجوب، الذي تزوجته لاحقًا. كما كان لزوجها علاقة وثيقة مع القيادي الشيوعي عبد الخالق محجوب، شقيق عثمان محجوب. شاركت خالدة في التظاهرات السياسية، واعتُقلت في مظاهرة نادي الخريجين عام 1946 ضد الجمعية التشريعية، لتصبح أول فتاة سودانية تُعتقل سياسيًا.
وفي عام 1958، انتُخبت رئيسة للاتحاد النسائي السوداني، بعد أن كانت من المؤسِسات البارزات منذ تأسيسه عام 1952، إلى جانب فاطمة أحمد إبراهيم وفاطمة طالب وغيرهن. تبنّت قضايا المرأة العاملة، ومناهضة الاستعمار، ورفعت شعار أن حرية الوطن تبدأ من حرية المرأة.
شعلة من نور لا تنطفئ
تقول فاطمة أحمد إبراهيم عن خالدة: “خالدة كانت دائما شعلة من نور لا تنطفئ، قوة لا تقهر في وجه كل تحدي.” بينما يؤكد المؤرخ سيد أحمد الطيب: “صوت الثورة النسائية في السودان، التي لم تخف من السجن ولم تهن أمام الطغيان.”
ظلت خالدة زاهر صوتًا نسويًا تقدميًا، ولم تنكفئ على مكتسباتها الشخصية. عملت على تمكين المرأة في الطب والتعليم والسياسة، وواجهت بفكرها ومواقفها القمع في العهود العسكرية، دون أن تساوم على مبادئها.
عُرفت خالدة بانحيازها العميق للفقراء، إذ ظلت عيادتها في شارع الدكاترة بأم درمان مفتوحة لمن لا يملكون ثمن الكشف أو الدواء. كان قلبها واسعًا مثل صدرها، تتحدث بلا تكلّف، وتنصت باهتمام، وتشارك في العمل الاجتماعي والطبي بلا كلل. تقلّدت عدة مناصب بوزارة الصحة، وتدرجت حتى وصلت إلى درجة وكيل وزارة، وجابت أقاليم السودان المختلفة لنشر الوعي الصحي ومحاربة العادات الضارة.
أسست مركز رعاية الطفل في أم درمان، وترأست بعثة الحج الطبية عام 1981، وشاركت في مؤتمرات طبية وسياسية عالمية ومحلية، حتى وهي تحت الحظر أو المضايقات الأمنية.
نالها التكريم في حياتها، حيث منحتها جامعة الخرطوم الدكتوراه الفخرية عام 2001 خلال احتفالات اليوبيل الماسي، كما كرّمتها منظمات المجتمع المدني عام 2006 بمناسبة بلوغها الثمانين، تقديرًا لعطائها الممتد ومواقفها النبيلة.
شخصية مُلهمة
يقول الناشط الحقوقي عوض محمد عثمان عن خالدة: “خالدة كانت مثالاً للثبات والإخلاص، وهي التي أضاءت دروبًا كثيرة للنساء السودانيات.”
ورغم كل هذه الإنجازات، لم تتعالَ خالدة على الناس. بقيت قريبة من الأحياء الشعبية التي خرجت منها، مؤمنة بأن الجيل الجديد من النساء “أقدر على فهم قضاياه ووضع الحلول المناسبة لها”، كما قالت في أحد أحاديثها الأخيرة. وكانت تؤمن بصدق بأن التغيير الحقيقي يبدأ من القاعدة، من تعليم البنات، ومن نشر العدالة الاجتماعية، ومن شجاعة مواجهة القهر والتقاليد البالية.
في فجر الثلاثاء 9 يونيو 2015، رحلت خالدة زاهر عن عمر ناهز التسعين عامًا، بعد حياة حافلة بالريادة والتضحية. رحلت جسدًا، لكنها تركت أثرًا لا يُنسى في ضمير الوطن وتاريخ المرأة السودانية.
اكتشاف المزيد من شبكة الخبر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.