الذاكرة السودانية في خطر: إرث أمة على حافة الضياع

الخرطوم – شبكة_الخبر – رغم الدخان والنيران التي التهمت جزءًا من مباني دار الوثائق القومية السودانية وسط العاصمة الخرطوم، إلا أن صوت الأمل لا يزال حاضرًا في شهادات العاملين داخل المؤسسة التي تُعدّ الوعاء الأكبر لذاكرة السودان الحديثة.

يؤكد العاملون بحسب الصحيفة شمائل النور أن الأرشيف القومي، بمجموعاته الثمينة من الوثائق الأصلية، ما يزال سالمًا إلى حدّ كبير، وأن الحريق الذي اندلع مؤخرًا اقتصر على الطابق الثالث من المبنى، والذي يُستخدم كمخزن للفائض وبعض الرسائل الجامعية، دون أن يمتد إلى الأجزاء الأساسية التي تحتفظ بالأرشيف التاريخي.

لكن الطمأنينة النسبية لا تخفي حجم التهديد القائم. فالحريق لم يكن الخطر الوحيد، بل إن المباني تضررت بشدة، حيث تهشّمت النوافذ وسقطت بعض الأسقف، فيما تعرّضت الوثائق لخطر التلف بسبب انقطاع الكهرباء لفترات طويلة، ما أخلّ بنظام الحفظ والتبريد، وأدى إلى ارتفاع مستويات الرطوبة. ومع اقتراب موسم الأمطار، تزداد المخاوف من تسرب المياه إلى الأرشيف المحفوظ، ما قد يؤدي إلى دمار لا يمكن تعويضه.

ذاكرة وطنية ممتدة عبر قرون

تُعد دار الوثائق القومية مؤسسة محورية في حفظ هوية السودان وتاريخه، وقد تأسست رسميًا عام 1965 لتكون المستودع المركزي للوثائق الرسمية والشخصية التي تؤرخ لمراحل الدولة السودانية منذ بداياتها.

تحتفظ الدار بوثائق نادرة تعود للعهد التركي-المصري (1821–1885)، وحقبة الدولة المهدية (1885–1898)، ومرحلة الحكم الثنائي البريطاني-المصري (1898–1956)، إضافة إلى أرشيف شامل لفترة ما بعد الاستقلال، يشمل محاضر الاجتماعات، المراسلات الرسمية، سجلات المحاكم، الوثائق الدستورية، وأوراق الأحزاب السياسية والحركات الطلابية.

كما تضم أرشيفًا مصورًا يحتوي على خرائط قديمة وصور فوتوغرافية وملصقات نادرة، إلى جانب مئات الرسائل الجامعية التي تعكس تطور الفكر والبحث العلمي في السودان. وتحوي أيضًا أوراقًا خاصة بعدد من الشخصيات الوطنية والفكرية البارزة، أمثال: محمد أحمد المحجوب، عبد الله الطيب، حسن الترابي، ومحمد إبراهيم نقد وغيرهم.

الخطر يتجاوز الحرب

الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، ألقت بظلالها الثقيلة على المؤسسات الثقافية والعلمية، وأبرزها دار الوثائق. لم تتوقف المخاوف على الخسارة المباشرة بالحريق، بل تجاوزتها إلى التهديدات الكامنة، مثل النهب أو التهريب أو الإهمال المزمن.

يقول أحد العاملين في الدار – فضل عدم ذكر اسمه لدواعٍ أمنية في تصريحات صحفية سابقة– إن “المكان لا يزال يفتقر لأدنى وسائل الحماية، لا توجد منظومة إطفاء ولا رقابة على الأبواب… إذا لم يتم التدخل فورًا، قد نستيقظ غدًا على فقدان كل شيء”.

نداءات عاجلة بلا مجيب

وجه العاملون نداءات متكررة للسلطات الانتقالية، والمنظمات الثقافية الدولية، وعلى رأسها اليونسكو، للتدخل السريع وإنقاذ الأرشيف، إما بترميم المباني، أو بنقل الوثائق إلى أماكن آمنة ومجهزة تقنيًا. لكن حتى لحظة كتابة هذا التقرير، لا توجد استجابة ملموسة.

ويُجمع المختصون على أن فقدان دار الوثائق لا يمثل خسارة للسودان وحده، بل هو فقدان لإرث إنساني يهم المنطقة والعالم بأسره، بما تحتويه من وثائق نادرة تعكس تطورات الحركات الوطنية، والسياسات الاستعمارية، والتحولات الثقافية في واحدة من أكبر بلدان أفريقيا.

صرخة التاريخ الأخيرة؟

في بلد تمزقه الحرب وينزف مجده الماضي، تبدو دار الوثائق القومية صرحًا يقاوم بصمت. الجدران المتصدعة تحمل على أرففها آخر ما تبقى من الذاكرة المكتوبة، والنداء مفتوح لكل من يملك قدرة أو مسؤولية:

أنقذوا الذاكرة قبل أن يغمرها النسيان… أو المطر.


اكتشاف المزيد من شبكة الخبر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *